لم تمض ساعات قليلة على الإعلان عن سقوط رأس النظام السوري، بشار الأسد، وخروجه من العاصمة دمشق التي كانت قد سقطت في أيدي الفصائل المسلحة، حتى أعلن الجيش الإسرائيلي توغلها في الأراضي السورية، وفرض ما أسمته بالمنطقة العازلة المؤقتة، وتزامن ذلك مع انسحاب كامل للإيرانيين من المنطقة. سوريا، بحسب ما أعلنه قائد الحرس الثوري الإيراني في تصريحات نقلتها وسائل الإعلام.
وتزامنت المشاهد الثلاثة السابقة مع تراجع حدة التصريحات الإيرانية تجاه إسرائيل، ما يفتح سؤالا ملحا حول الأدوار التي يمكن أن يلعبها ما يسمى منذ سنوات بـ”محور المقاومة” الذي تقوده إيران، بعد سقوط نظام الأسد الذي كان يعتبر من أبرز الأوراق التي اعتمد عليها. وتقوم طهران بتسويق استراتيجيتها في المنطقة. حتى أن المرشد الإيراني علي خامنئي وصف في وقت سابق بشار الأسد بأنه “مقاوم ومقاتل عظيم”.
والسؤال الملح اليوم، بعد المتغيرات الكبيرة التي طرأت في الأيام الأخيرة، والضربة المدمرة التي تلقاها الوجود والمشروع الإيراني في المنطقة، هو: هل ستتخلى طهران نهائيا عن طموحاتها التوسعية؟ أم أنها تراجعت خطوة إلى الوراء ضمن الترتيبات الإقليمية والدولية التي أدت إلى هذا الانهيار السريع لقوات الأسد أمام الفصائل؟ المعارضة السورية؟
التفاهمات الإقليمية والدولية
تقول ليلى موسى، ممثلة مجلس سوريا الديمقراطية في مصر، “من الواضح أن الانسحاب الإيراني الكامل من سوريا جاء نتيجة تفاهمات إقليمية ودولية، اختارت فيها طهران الانسحاب من سوريا لأنها كانت تعاني من ظروف قاسية جداً”. الظروف على المستويين الإقليمي والمحلي”.
والسؤال الملح اليوم، بعد المتغيرات الكبيرة التي طرأت في الأيام الأخيرة والضربة المدمرة للوجود والمشروع الإيراني في المنطقة: هل تتخلى طهران نهائيا عن طموحاتها التوسعية؟ أم أنها تراجعت خطوة إلى الوراء كجزء من الترتيبات الإقليمية والدولية التي أدت إلى الانهيار السريع لنظام الأسد؟
وأضافت في تصريحات لرصيف22: “لعل طهران لديها أولويات أخرى الآن، وهو ما جعلها تتخلى عن نظام الأسد، خاصة أنها تلقت ضربات موجعة على يد الإسرائيليين، وفقدت الكثير من أسلحتها سواء في غزة”. أو حرب لبنان، أو خلال الهجمات التي استهدفت مواقعها في سوريا”. .
وتتفق مع هذا الطرح الباحثة نيكول جرايوسكي، زميلة برنامج السياسة النووية في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي. وتصف في مقالها الانسحاب الإيراني من سوريا بأنه “تكتيكي بالدرجة عرب تايمى”، مشيرة إلى أن “طهران تنظر إلى دمشق باعتبارها أحد أهم المواقع الاستراتيجية”. ومن أجل ذلك، فقد استثمرت ما يقدر بنحو 30 إلى 50 مليار دولار على مدى السنوات الماضية لدعم نظام بشار الأسد.
حماية المحور بالتخلص من الأسد
ويشير الباحث إلى أن قبول إيران بسقوط الأسد جاء ضمن “خطواتها لحماية محور المقاومة من الانهيار الكامل”، موضحا أنه منذ بداية عام 2024، وجدت كل من روسيا وإيران أن نظام الأسد يمثل عبئا عليهما، وأنها ترسم بشكل متزايد مسارًا مستقلاً يتعارض مع الأهداف الإقليمية. “بالنسبة لطهران تحديداً، وهو ما جعل إيران التي سبق وأن سارعت إلى التدخل في سوريا لإنقاذ محور المقاومة من الانهيار، ترى أنه من الضروري القيام بخطوة معاكسة تماماً لنفس الهدف”.
ويقول جرايوسكي: «إن الشبكة التي شكلتها إيران، والتي تمتد من طهران إلى بيروت إلى صنعاء، كانت بمثابة رد إيران على العزلة الإقليمية والضغوط الغربية. لكن هذا النموذج، الذي بدا فعالاً جداً في لبنان، انهار قبل أشهر عندما استنزفت إسرائيل حزب الله، وفي نهاية المطاف أثبت هذا النموذج أنه غير مستدام في سوريا أيضاً.
المشروع الإيراني لا يزال قائما
وتؤكد ليلى موسى أن “الاستراتيجية الإيرانية المتمثلة بمشروع الهلال الشيعي لا تزال قائمة، كون المشروع جزء من العقيدة الإيرانية، ويمكن لطهران إعادة توظيفه بأوراق جديدة في المستقبل”، لافتة إلى أن “سوريا كدولة بغض النظر عمن يحكمها، فهي مهمة بالنسبة لإيران، ولذلك رأينا كيف سارعت طهران إلى إصدار بيانات تؤكد استعدادها للتعاون مع الحكومة الجديدة في سوريا”.
وتوضح أن الفترة المقبلة ستكشف شكل العلاقات السورية الإيرانية، مؤكدة أن ذلك سيعتمد على مدى قدرة إيران على تغيير توجهاتها في المستقبل، أو حتى على صمود النظام الإيراني نفسه في ظل التحديات التي يواجهها. وجوه الحاضر والمستقبل.
الانسحاب الإيراني من سوريا هو “تكتيكي في المقام عرب تايم… فطهران تنظر إلى دمشق باعتبارها واحدة من أهم المواقع الاستراتيجية بالنسبة لها، حتى أنها استثمرت ما يقدر بنحو 30 إلى 50 مليار دولار على مدى السنوات الماضية لدعم نظام بشار الأسد”.
وتتابع: “من جهة أخرى، لسوريا تأثير مباشر على الأمن القومي الإسرائيلي، لذلك ستعمل تل أبيب على تأمين حدودها مع سوريا، وهو ما ظهر في تحركاتها السريعة”، مشيرة إلى أنه رغم العداء المعلن مع عائلة الأسد واستطاعت إسرائيل أن تخلق سياسة توافقية مع دمشق، ولم نشهد أي مواجهات بين الطرفين خلال العقود الماضية.
وتفسر موسى التوغل الإسرائيلي في الأراضي السورية على أنه محاولة استباقية قامت بها تل أبيب تحسبا لأية مخاطر مستقبلية، وتستدل ذلك بالضربات التي استهدفت مستودعات أسلحة ومراكز أبحاث تابعة للنظام السوري، خوفا من استهدافها. سقوطها في أيدي الفصائل المسلحة، قبل أن تكون هناك تفاهمات جديدة.
كما يخشى السياسي السوري من الدور التركي الذي بدأ يملأ الفراغ الذي خلفته طهران، مشيراً إلى أنه رغم تخلص سوريا من مشروع توسعي إيراني، إلا أنها تواجه مشروعاً توسعياً آخر وهو المشروع التركي، كمشروع كبير. وجزء من الفصائل التي كانت تسيطر على أملاك الأسد مرهونة لتركيا.
بوادر وقف حرب لبنان
ويتفق مع هذه الرؤية الباحث الفلسطيني أيمن الرقب، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القدس، إذ يرى أن قرار وقف الحرب في لبنان ارتبط بما حدث في دمشق، لافتا إلى أن سبب ذلك قبول زعماء اليمين الإسرائيلي المتطرف بوقف الحرب في لبنان كان نتيجة لقناعتهم بأن شيئاً ما سيحدث في المنطقة.
وقال في تصريحاته لرصيف22، إن “تقدم الدبابات الإسرائيلية إلى عمق سوريا وتدمير المواقع الاستراتيجية في سوريا ودخولها إلى مسافة 14 كيلومتراً تقريباً داخل الأراضي السورية، ينبئ بأي تطورات قد تحدث في المنطقة، خاصة بعد الرئيس الأسد”. وصول دونالد ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة”.
ويشير إلى أن إيران بالتأكيد هي الخاسر الأكبر مما حدث. ورغم أنها لم تشارك في الحرب بشكل كبير ومباشر، إلا أن سقوط بشار يمثل ضربة موجعة لها، إلا أنها تبنت استراتيجية مختلفة في الأسابيع الأخيرة، مستشهدة بتصريحات محمد جواد ظريف التي أدلى بها أمام النظام. مجلة. أمريكي، أكد خلاله على عمق وعراقة العلاقات بين الفرس واليهود تاريخياً.
وأضاف: “لا يمكن التنبؤ بشكل العلاقات السورية الإسرائيلية، لأن الخريطة السياسية السورية لم تتشكل بعد، وهي قابلة للتغيير في المرحلة المقبلة. في ظل وجود مجموعات قتالية مختلفة وفصائل مسلحة مختلفة”. وطوائف مختلفة، فضلا عن وجود الأكراد الذين لديهم أيضا قواتهم الخاصة، وقد تشهد المنطقة انقسامات طائفية”. أو العرقية، مما يجعل المرحلة المقبلة غير واضحة، وبالتالي يصعب التنبؤ بما سيحدث».
هدنة سورية إسرائيلية
ويتوقع الرقب أن أي “نظام ناشئ في سوريا ستكون له علاقات مع إسرائيل، وإذا لم تكن هذه العلاقات جيدة فإنها ستكون أقل حدة في التعامل مع إسرائيل قبل سقوط الأسد، مع الاعتراف بأن نظام الأسد الأب والابن ولم يفتح أي جبهة لمواجهة إسرائيل”. لقد اكتفوا برفع الشعارات فقط، ولم يفتحوا حتى أي طريق عسكري أو سياسي لاستعادة الجولان المحتل طوال هذه العقود”.
في المقابل، يميل الباحث السوري أحمد شيخو إلى الرأي القائل بأن إيران جزء من الترتيبات الإقليمية التي عجلت بسقوط نظام الأسد دون مقاومة تذكر، مؤكدا أنه “على الرغم من تراجع ما يسمى محور المقاومة فالعقلية الإسلامية سواء كانت شيعية أو سنية لديها رغبة في تصدير أفكارها، لذا فإن طهران لن تتخلى عن طموحاتها، لكنها قد تغير أساليبها وأدواتها في المستقبل”.
وأضاف شيخو لرصيف22 أن إيران تخلت حالياً عن بعض حلفائها لحماية برنامجها النووي الذي تعتبره أهم أولوياتها في الوقت الحاضر، لكنها قد تستعد لجولات أخرى في المستقبل.
وبعد وصول قيادات من جماعة الإخوان المسلمين إلى رئاسة الحكومة السورية، يتوقع شيخو أن تشهد الفترة المقبلة تفاهمات مع القوى الغربية، ويشير إلى أنه “من غير المستبعد أن تدخل دمشق الجديدة في اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل”. ، المعروفة باسم اتفاقيات إبراهيم، التي رعتها الولايات المتحدة لتطبيع العلاقات الإسرائيلية مع الدول العربية.
الإصلاحيون في إيران والتقارب مع الغرب
وفي سياق متصل، توقعت الباحثة الأميركية باربرا سلافين، المحاضرة في الشؤون الدولية بجامعة جورج واشنطن، أن تشهد الفترة المقبلة تقاربات بين إيران والغرب، مؤكدة أن إيران تخشى أن يغري سقوط الأسد النظام السوري. المعارضة الإيرانية تزيد ضغوطها على نظام خامنئي. وقام بتحركات مماثلة.
ويضيف الباحث أن طهران، على عكس سوريا، تمتلك مجتمعا مدنيا ومؤسسات متقدمة يمكن إعادة استخدامها كأدوات جديدة، خاصة الحركة التي ترفع شعار “إيران أولا”، والذي ربما يمكن تصديره لإصلاح العلاقات مع الغرب، وهو يتفق مع المقال الذي نشرته مجلة “فورين أفيرز”. صحيفة أمريكية، لوزير الخارجية الإيراني الأسبق جواد ظريف، أكد فيها انفتاح بلاده على إصلاح علاقتها مع الغرب.
ويختلف الباحث السياسي السوري وائل الأمين مع الطرح السابق، إذ يرى أنه بعد سقوط نظام الأسد لم يعد هناك ما يسمى بمحور المقاومة، إذ لم يبق أي عميل لإيران في المنطقة إلا ما تبقى من سوريا. حزب الله اللبناني، وما تبقى من المقاومة المتحالفة مع طهران. في غزة.
“إن انتصار الثورة السورية فتح الباب أمام هزيمة إيران وأذرعها في المنطقة، وباتت مضطرة إلى قبول الواقع الجديد، وما كان قبل سقوط بشار ليس كما بعده، إذ ولن تتمكن طهران من استغلال أي من الأوراق التي كانت تستخدمها من قبل”.
وقال الأمين لرصيف22، إن “انتصار الثورة السورية فتح الباب أمام هزيمة إيران وأذرعها في المنطقة، وأنها أصبحت مضطرة إلى قبول الواقع الجديد، وأن ما كان قبل سقوط بشار هو ليس كما بعده، إذ لن تتمكن طهران من استغلال أي من الأوراق التي كانت تستخدمها من قبل». .
ويعول الباحث السوري على الحكومة السورية الجديدة التي تواجه مجموعة واسعة من التحديات، لإعادة رسم علاقات سوريا مع العالم الخارجي على الصعيدين الدولي والإقليمي، مشيراً إلى أن أول ما يجب فعله هو مواجهة التحديات الداخلية. وأبرزها مكافحة الإرهاب وتجارة المخدرات.
وستبقى إسرائيل عدواً للسوريين
ويحسم الأمين شكل العلاقة السورية مع إسرائيل في ظل حكومة ثورية جديدة، قائلاً إن أحد القيادات النافذة في فصائل المعارضة أبلغه قبل أيام أن “إسرائيل ستبقى عدواً يحتل أرض سوريا”، في إشارة إلى أنه لا يمكن التنبؤ بشكل العلاقات السورية الإسرائيلية، فالثورة لا تزال في أيامها عرب تايمى، وقد تحمل الأيام المقبلة تطورات أسرع من المتوقع.