كتب / احمد عبد اللاه
يذهب زمن الثورات لكنها تعيش في الأناشيد وفي مواسم الاحتفالات السنوية والعشرية. وعليك أن تتخيل عزيزي القارئ أنْ تكتمل المئوية بينما الأجيال تتوارث سيكولوجية الجماهير القديمة دون فهم ماهية الثورة و ما كانت مآلاتها. الآن يتم الاحتفاء بمناسبة سبتمبر وسط حالة إنكار للواقع، تتجلى في مواقف عاطفية مختلطة، تشبه (فرح بكائي أو بكائية فرح) ببعدها الميلودرامي لأن هناك على الأرض شيء آخر، واقع مختلف.
بعد ٢٦ سبتمبر أتى انقلاب ٥ نوفمبر ثم كانت هناك حاجة إلى انقلاب يصحح الانقلاب الفائت ثم تمت الإطاحة بالمنقلبين على الانقلابيين الأوائل وهكذا تواترت حلقات المسلسل و تدحرجت المسارات، كيفما شاءت لها مراكز الفعل، لتحط رحالها في يد رئيس اختصه الله بفيض من مهارة (التكتكة). ظل يشتغل عليها طويلاً في بلد تقسّم إلى مركز مقدس وفائض ديموغرافي. حتى فاض كأس الصنعة بقطرات مسمومة ليجد نفسه وحيداً في زاويته الأخيرة بانتظار قاتل ضئيل لم يكن قد تخيله لحظة واحدة في مسيرة حكمه.
لقد أنجز (سبتمبر القديم) في آخر يوم من عمر المملكة المتوكلية ما لم يتحقق خلال قرون من الصبر والتسليم، لكن نظامه الجمهوري بعد عقود قليلة غادر المكان والزمان مرهقاً مستنفداً طاعناً في الوهن، وصارت الجمهورية حدثا في التاريخ.
ليس هذا فحسب بل أن الدولة بمواصفاتها البدائية غادرت وكذلك المجتمع تقسم والواقع تأزم والحالة التي تصالح معها شعب (متجمهر) منذ الشرارة الأولى رحلت. حتى أن الأجيال قد تحتاج إلى عقود قبل أن تكتشف كيف تفجِّر أيلولاً جديداً بتقنيات آتية مع رياح الزمن و بمقاييس تتناسب مع الوجهة الجديدة لأنظمة الشرق المبتكرة، وبالتأكيد بعد أن تظهر ملامح إنسان آخر لا يرى جدوى من الحنين إلى (سبتمبره) الأول.
للحاضر ثنائية مؤلمة: إذ ما يزال مثقل بأحمال الماضي في السياسة والثقافة وما ترسخ في (اللاوعي الاجتماعي) لهذا قد يطول الحنين لأول منزل وهو سبتمبر الثورة الأولى التي تتحول إلى مادة احتفالية لتخلد كثورة منتصرة حتى وإن غادرت زمانها و لم يعد في صنعاء شبراً متاحاً لإحيائها!
وفي جانب مقابل هناك حقيقة أخرى: وهي أن أحفاد من أطاحت بهم قد عادوا (بسلامة الله وحفظه وبأياد سبتمبرية حاكمة) إلى عروشهم منتصرين ليعلنوا عن نهاية مسار زمني دائري بدأ ثانية من حيث انتهى قبل نصف قرن ونيف. عادوا بصفة ثوار وطنيين وفي (ذات أيلول) الذي رحّل أجدادهم بعد أول طلقة من دبابة صغيرة على دار البشائر وخروج الإمام الشاب الجديد (حينها) متخفياً إلى عالم الشتات بينما كان المذياع يدشن نصوص المرحلة الثورية ويدق أجراس الجمهورية.
عام بعد عام وعشر بعد عشر لاح ويلوح سبتمبر حاملاً ذات الفكرة والخطاب و النشيد، يحتفي به الناس كل على طريقته وكيفما شاءت له قناعاته أن يراه.. لكن الآن و في كل هذه المآلات لا شيء يُرى سوى بلد منكوب. وأي نكبة؟!
لقد تم تدشين اليمن الحديث (نظرياًً) بدل المرة الواحدة مرات لكنه لم ير النور كما ينبغي.. بينما دول (أقل عمراً) لا تحمل أي إرث ثوري حققت نهضة قياسية في الحيز الزمني الذي ظلت فيه اليمن تعيش بسبتمبرياتها على الهوامش دون ان تبني دولة حقيقية ودون أن ينتقل المجتمع انتقالاً مدنياًً حضارياً.
للثورات إذن طبائع ومسارات وتداعيات مختلفة منذ (يهودا المكابي) وحتى الثائر (تشي).. وانت تدرك عزيزي القارئ أن لكل ثورة منهج للتغيير و قيم ومسار وقادة حقيقيون، مالم سوف تتحول إلى عمل عفوي يصادرها المغامرون.
الحكاية إذن لا تتعلق بصفة الثورة ولقب نظامها والوان راياتها ونشيدها الوطني وأهدافها المذاعة على مسامع الأمم والمدونة في ورقة البيان الأول.. وإنما بالإنسان وحده، بالنخب الرائدة، بطبيعتهم ووعيهم وثقافتهم وأخلاقهم ونكران الذات في ميزان الاستحقاقات الوطنية، وهل هم بُناة دول راسخة أم بُناة سلطان وحكم الفرد، وهل هم من أهل الفكر الاستراتيجي أم من ذوي النزعة الخطابية الفارغة.
لقد استُنزف سبتمبر حتى رحل من بين أيدي الجمهوريين تاركاً خلفه بلداً مغدوراً نصَبَ على أنقاضه راية مغسولة بدماء أولئك الذين ضحوا من أجله.
“لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أحلام الرجال تضيق”