ولا أرى للمواطن أو المتابع للشأن المصري خياراً أمام هذا الواقع المذهل إلا خيارين: إما التجاهل التام، وهو ما أعتقد أنه مستحيل على الأقل في حالة المواطنين، أو الوقوع فريسة لحالة من الدهشة والغضب إزاء التدهور المستمر والتدمير الذي لا يوصف، إلا المتعمد والمنظم، للتراكم الحضاري للشعب المصري.
يبدو الأمر في كثير من الأحيان وكأن السيسي يحاول عمداً تدمير كل القيم الجمالية المرتبطة بذاكرة الناس، كل ما جعل مصر (تاريخياً على الأقل) ما هي عليه في عقول الناس وضمائرهم؛ وكأن الواقع الحالي بصعوباته الاقتصادية الساحقة وإهاناته المستمرة لا يكفيه، فهو يحرم الناس من ذاكرتهم، والأماكن التي ربما ارتبطت في مخيلتهم وذاكرتهم بأيام أفضل.. أسعد وأكثر روعة.
من الممكن تماماً أن أزعم أنني أعبر عن مشاعر ملايين لا تعد ولا تحصى، عندما أقرر أن الخوف من الغد وما يحمله، والخوف على الغد أصبحا القاسم المشترك والشغل الشاغل للأغلبية العظمى، والأغلبية الساحقة من الناس. وما لم يختاروا غض الطرف، أو تبرير أنفسهم بالتفكير التمني، فإنهم على يقين تقريباً من أن ما سيأتي أسوأ، وهذا ما يرعبهم. أولئك الذين لا يملكون سوف يزدادون فقراً وجوعاً، وسوف يتعرض “الأثرياء” للخطر، وسوف يجد الأغنياء صعوبة، ولا أحد يعرف أين سيتوقف هذا الانهيار وهذا السقوط.
ولعل السؤال الذي لا يتردد أحد في طرحه هو: ماذا سيبيع السيسي اليوم ولأي دولة خليجية؟ من الواضح أنه هو والبلاد غارقون في ديون لا تنتهي، ويجري يائساً في كل الاتجاهات لسداد فوائد هذه الديون.
كيف استطاع السيسي أن يحدث كل هذا الدمار دون أي عائق أو مانع، ودون أن يتدخل أحد ليوقفه؟
نحن لا نقصد هنا بطبيعة الحال الخمسة في المائة أو نحو ذلك، التي يهتم بها النظام ويرىها فقط، وربما لا نبالغ عندما نقول إن السيسي، باستبعاده لهم، وحد ما تبقى من الخمسة والتسعين في المائة تقريباً، بغض النظر عن طبقاتهم، في الخوف من وحشية آلة النظام العنيفة ومن المستقبل.
وكامتداد منطقي للتدهور والانهيار المذهل، يلح على الناس سؤالان: كيف استطاع السيسي أن يدير كل هذا الدمار، دون عوائق أو معوقات، دون أن يتدخل أحد ليوقفه؟ وهل هناك على الأقل مستشارون أو رجل عاقل (إن لم يكن رجالاً) حوله؟ والإجابة على السؤال الثاني سهلة ومباشرة ولا تحتاج إلى أي جهد، فهي سلبية: لا، ليس حوله عاقل، حتى لو كان موجوداً، باعتبار أن مثل هذه الحماقة لا تتكرر، فهم يفضلون الصمت خوفاً وطمعاً، وقد فهموا جيداً طبيعة هذا النظام ورأس هذا الرجل الغامض تماماً.
أما الإجابة على السؤال الأول فهي أكثر تعقيداً وأهمية، فالمشكلة ليست في السيسي، بل في «الآلة» أو جهاز الدولة الذي مكنه من الوصول إلى أهدافه، وتنفيذ كل رؤاه، وتحقيق كل ما يتخيله أو يخطر على باله، وهو جهاز مشوش ومحدود الثقافة والمعرفة، كما أصبحنا نعرفه جيداً.
الآلة الجهنمية
إن القمع والتقديس وحتى تقديس الحاكم إرث طويل في مصر، يعود إلى عصور قديمة، لا مجال هنا للتوسع فيه، ولكن يكفي هنا أن نلفت الانتباه إلى أن مصر الخارجة من عصر المماليك، سواء كانت مستقلة أو تحت الحكم العثماني ثم فترة حكم الأسرة العلوية الأولى، ورغم الخطوات الكبيرة التي قطعتها عبر النضالات الفكرية والسياسية لكسب الحريات السياسية والديمقراطية، إلا أن ما ربطها بماضيها الطويل كان أعمق وأقوى مما ربطها بالمستقبل؛ فتحت غطاء المكاسب في القضية الوطنية، حقيقية كانت أو مبالغ فيها، ومشاريع ذات بعد اجتماعي، سعى عبد الناصر إلى تأمين انقلابه، أو ثورته، سمها ما شئت، بإزالة كل معارضيه، حتى أولئك الذين لم يحملوا السلاح، والذين لم يعرف عنهم تاريخ في العنف (أي أغلب القوى السياسية في الواقع) بتصويرهم كبقايا ورواسب من حقبة بائسة وفاسدة بشكل عام.
إن عبد الناصر هو المؤسس الحقيقي لهذه “الماكينة الجهنمية” باعتمادها على الأمن وضرب المعارضين ومصطلحات ومفاهيم “التعبئة” والاصطفاف وغيرها، بمعنى أن الجمهور سوف يصطف ويتماهى مع التصفيق للزعيم. وقد يعترض علينا البعض بأن الأمن لم يستشر في عهده، وأن السياسة لم تختف. وهذه حجة صحيحة، ولكن الرد عليها هو أن مصر التي قاد فيها انقلابه كانت بها قوى سياسية حقيقية لها تاريخ، وبالتالي فإن تجفيفها ومحو نفوذها يتطلب أجيالاً عديدة، وهو ما حدث بالفعل على أيدي من خلفوه.
في عهده ترسخت تلك الآلة الملعونة التي تمنح الرئيس ذي الخلفية العسكرية أو الرئاسة صلاحيات غير محدودة، قوية لا تقهر. وحين جاء السادات محا خط ناصر وعكس انحيازاته الاجتماعية تماما (رغم المعارضة الشرسة)، مستغلا هذه الآلة الوحشية، ولم يكن مبارك استثناء. حتى وصلنا إلى السيسي الذي ورث هذه الآلة الغارقة في الدماء، وكان كل من سبقه يضيف إليها شيئا أو شيئا آخر، فأصبحت منتفخة، تافهة، جامحة، بذيئة، لا وزن للقانون ولا للقيمة، وخاصة الحياة البشرية.
لقد ورث مجتمعاً منهكاً ممزقاً متهالكاً فقيراً، ولأن الثورة لم تثمر لأسباب متعددة ومعقدة ومتشابكة، لم يكن العسكر بعيدين عنها إطلاقاً، فقد زاد ذلك من يأس المجتمع وضعفاً وقابليته لمزيد من الاغتراب والخضوع لقمع هذه الآلة.
لا شك أن ظاهرة القمع معقدة، ذات آثار نفسية عميقة ومتجذرة، بفعل قرون من الزمان، تؤهلها وتدفعها إلى إعادة إنتاج نفسها، لكنني لا أجد تفسيراً أكثر إقناعاً لظاهرة السيسي، والتصريحات الغامضة التي يطلقها، والتفكيك المنهجي للعقدة المصرية التي ظلت متماسكة، رغم كل ما مرت به إلا هذه الآلة الدولة.
إن ما يحدث في مصر مدهش حقاً، ولا تكفي كلمات مثل الدهشة والدهشة للتعبير عن مشاعرنا ودهشتنا من كيف استطاع إنسان محدود القدرات، قليل الذكاء والمعرفة، يفتقد الكاريزما، ويده ثقيلة، أن ينفذ قراراته ويمرر كل ما يريده دون مقاومة تذكر. ولن أتعب أبداً من التأكيد على أن هذه الآلة الملعونة، الدولة بأجهزتها القمعية، هي الإنجاز الأهم والأبقى لعبد الناصر ويوليو. فقد ظلت تعمل بسلاسة كآلة يتم صيانتها وتشحيمها وتزييتها، تتغير السياسات والتوجهات، لكنها تظل عنصر الاستمرارية والرابط، وقلب النظام وجوهره، وبقدر ما يتدهور المجتمع، تتوسع وتتفرع.
ورغم افتقاره للذكاء، إلا أن السيسي فهم ذلك، وخدم تروس هذه الآلة من خلال منح الضباط منحاً ضخمة، وإعطائهم حرية الإثراء والانتقام كما يشاؤون دون محاسبة، فأطاعته الآلة تماماً.
ومن هنا نفهم أيضاً الخطأ الأساسي أو الخلل في ما حصل في يناير/كانون الثاني، وما قد يتكرر في أي تحرك مستقبلي، وما قد يؤدي إليه من فشل متكرر: هو عدم فهم طبيعة هذه الآلة.
إن التغيير الحقيقي في مصر لا يكفي لإزاحة رأس النظام، بل لابد من تدمير هذه الآلة. ولكي تكون الثورة ثورة لابد من تفكيك آلة الدولة في مصر، وضرب عقدها العصبية وإزالتها بالكامل، وإعادة بناء جهاز جديد من أجل دولة حديثة جديدة ذات بنية وصلاحيات خاضعة للرقابة الشعبية وسيادة القانون، ولا تسمح بإعادة إنتاج القمع والسيطرة الكاملة. وبدون ذلك فإن الحركات الشعبية لن تكون أكثر من مجرد انفجارات مؤقتة سرعان ما تهدأ ويعود القمع أكثر شدة.
أنا لا أزايد على أحد، فأنا أدرك أن هذه مهمة صعبة وشاقة، ولكن أزمتنا عميقة أيضاً، فهذه الآلة التي ورثت ما قبلها وزادت عليها، وكبرت وتضخمت واستبدت، أصبحت كالجبل الذي يقف عائقاً أمام أي تنمية أو تقدم حقيقي، ولا يمكن تجاوزه، كما أثبتت أحداث يناير/كانون الثاني الماضي.
كل الدلائل والتحليلات المنطقية تقود إلى استنتاج مفاده أن الوضع من المرجح أن يؤدي إلى اضطرابات واندلاع مظاهر السخط والتذمر. ولن أجزم بحدوث ثورة، فمن الصعب التنبؤ بها بثقة، خاصة في ظل الإحباط الذي أعقب يناير. ولكن في كل الأحوال فإن دور هذه الدولة سوف يصبح أكثر وضوحا، وقد تكون هذه هي البداية المرجوة لمواجهتها ومن ثم إسقاطها، مهما طال أمد هذه العملية ومهما كلفت من تكاليف.
القدس العربي