وفي غزوة مؤتة كان الجيش الإسلامي ثلاثة آلاف مقاتل، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراء عليه، وقال: «أمير الناس زيد بن حارثة، فإن قتل فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل فعبد الله بن رواحة، فإن قتل فليختار المسلمون رجلاً منهم فيأمروه عليهم».
وهنا نلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم ثلاثة من أعز الناس على قلبه لقيادة المعركة التي توقع أن تكون شديدة الضراوة، وكان قد تبناها من قبل بسبب حبه الشديد له، والآخر ابن عمه، وهذه رسالة لمن يتقدمون إلى مناصب القيادة أن القائد الحقيقي هو الذي يقدم أحباءه وأقاربه إلى ساحات المعاناة والفداء، وليس إلى مواقع الغنائم والمنافع المريحة.
إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فإن قتل فليختار المسلمون رجلاً منهم فليتولوه» رسالة واضحة أن المسلمين هم الذين يختارون من يقودهم حتى في أصعب الظروف، حتى ولو كانت حالة اشتباك مع العدو في ساحة المعركة، ويجب أن يرضوا بهذا القائد، فلا مكان في الإسلام لقائد يقهر الناس بقوة السلاح ويركع على صدورهم وهم يكرهونه، وهذا تعليم من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في منهجية اختيار القائد وهو حي، حتى إذا غاب عنهم لم يقبل المسلمون قائداً ينقلب عليهم بقوة السلاح أو يصل إلى كرسي الحكم دون رضاهم.
ولما خرج الجيش الإسلامي من المدينة وصل الخبر إلى هرقل فجمع لهم مائتي ألف مقاتل، مائة ألف جمعها هو ومائة ألف جمعها شرحبيل بن عمرو، فتصور أن المواجهة ستكون بين ثلاثة آلاف مقاتل ومائتي ألف مقاتل، وعلى أرض يعرفونها جيداً ويألفونها، بينما لم يختبرها المسلمون من قبل.
وعندما بدأت غزوة مؤتة على بعد أكثر من ألف كيلو متر من المدينة جمع النبي صلى الله عليه وسلم من بقي من أهل المدينة في المسجد ووقف على المنبر وبدأ ينقل أحداث الغزوة عبر البث الحي والمباشر، وبدأ يحكي للناس ما كان يقوم به الصحابة الكرام في هذه الغزوة الملحمية، ونعى من فوق المنبر قادة الجيش الثلاثة الذين كانوا في مقدمة شهداء الغزوة، بينما كان صلى الله عليه وسلم يبكي على المنبر.
أخرج البخاري في صحيحه أنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أخذ اللواء زيد فقتل، ثم أخذه جعفر فقتل، ثم أخذه عبد الله بن رواحة فقتل – وعيناه تذرفان – ثم أخذه سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم».
قال ابن حجر: “وفي كتاب المغازي لموسى بن عقبة ـ وهو أصح المغازي ـ قال: ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة فقتل، ثم أجمع المسلمون على خالد بن الوليد، فهزم الله العدو، ونصر المسلمين”.
وقد أذاع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الغزوة على غير غيرها من الغزوات، وذلك لأهميتها، وعظم أثرها، وما تضمنته من تضحية وفداء عظيمين، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه الشهداء، وبكاؤه لا يتنافى مع الرضا، بل هو رحمة القلب ورحمة الإنسان الكامل، كما يسجل هذا الأذان فضل خالد بن الوليد رضي الله عنه، فقد لقب في هذا اليوم بسيف الله المسلول، وهو لقب سيلازمه إلى يوم القيامة، تشريفاً وإجلالاً.
هذه لم تكن كل تفاصيل تلك الغزوة التي دامت المعارك فيها ثلاثة أيام، وانتهت باستشهاد اثني عشر رجلاً من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، بينهم قادة الجيش الثلاثة، وسجل فيها خالد بن الوليد انتصاراً حقيقياً على الروم بحكمته العسكرية وعبقريته؛ بل هي شذرات في ذاكرة المعركة، وجولة في الأمنيات العظيمة للرجال العظماء، وتلفت الانتباه إلى بث حي من نوع مختلف في زحمة البث الحي هذه الأيام؛ وفي ظل رحيل القادة العظام الذين تعاقبوا على قيادة المقاومة، مؤكدين أن القلاع لن تسقط والحصون لن تُخترق، فلعلها ذكرى تنفع من كان له قلب أو استمع وهو شهيد.
Discussion about this post