لا يزال بعض التونسيين يشككون في عملية التغيير الكبيرة التي تشهدها سوريا حاليا، ويعتقد بعضهم أن مؤامرة دبرتها أطراف متعددة للتخلص من بشار الأسد ونظامه. أحياناً تقرأ مقالات، وتطلع على بيانات، وتستمع إلى تعليقات تصيبك بالدوار، وتتفاجأ بقدرة البعض على الانغماس في الخيال إلى درجة تجاوز حدود السخافات. ولو جاءهم حاكم سوريا السابق وأبلغهم أن الكثير مما يقال عنه وعن نظامه صحيح لما صدقوه، ولحاولوا إعادته إلى رشده. وحتى الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان لم تسلم من هذه الانزلاق، وهو ما اتضح في بيان صدر مؤخرا عن مجلسها الوطني، وحاول رئيسها “إزالة البلبلة” للحد من الخراب في مالطا.
وهو وضع غريب، يكاد لا يصدق، والمخاوف من أن يستمر هذا التوجس والتشكيك والخطاب العدائي الذي يستخدمه البعض، حيث ستصبح العلاقة بين التونسيين والسوريين أكثر تعقيدا، والشرخ بين الشعبين اللذين كان لهما علاقات جيدة. العلاقات لفترة طويلة سوف تطيل.
موقف غريب، لا يصدق تقريبا. وما نخشى منه هو أن يستمر هذا التوجس والتشكيك والخطاب العدائي الذي يستخدمه البعض، حيث ستصبح العلاقة بين التونسيين والسوريين أكثر تعقيدا، وسيطول الصدع بين الشعبين اللذين تربطهما علاقات جيدة منذ فترة طويلة.
ولا يزال مقر السفارة السورية في تونس ينتظر تعيين سفير جديد خلفا للسفير الذي عينه الأسد قبل أشهر. ورغم أن وزارة الخارجية التونسية صححت موقفها بعد انحيازها الكامل للنظام المنهار، واتهام المعارضة بالإرهاب، إلا أنه لم تطرأ أي تطورات جديدة في هذا الملف، واكتفت الجهات الرسمية بمتابعة الشأن السوري، عبر تقارير السفارة التونسية بدمشق. وبات واضحاً أن تونس ليس لديها حالياً أي شروط تربطها بأطراف سورية يمكنها الاعتماد عليها لحماية مصالحها مستقبلاً.
ومن المتوقع أن يتم تعيين سفير جديد خلال الأيام المقبلة، والذي سيكون بالتأكيد تابعاً لهيئة تحرير الشام أو قريباً منها، وستضطر السلطات التونسية، بحسب التقاليد، إلى التعامل معه. ومن أجل تحسين العلاقات الثنائية وحماية مصالح البلدين، فإن أيديولوجية أحمد الشرع أو انتمائه السابق لتنظيم القاعدة لن تكون عائقا، بل رغبة الطرفين في طي صفحة الماضي سيعملان، وتعهد كل منهما بعدم التدخل في شؤون الآخر. لهذا؛ إن العديد من الذين يعزفون على وتر “الإرهاب القادم” من سوريا إلى تونس سيبقون في حالة من التسلل، أو يضعون أنفسهم في صراع مع سياسة الدولة ومصالح تونس.
وليس القصد في هذا السياق كبح جماح الصحافيين والسياسيين، ومنعهم من مناقشة الملف السوري، فهذا أمر مشين لا ينصح به، لكن المطلوب هو التعامل مع الوضع السوري دون تصورات مسبقة. تمر سورية بظروف صعبة، وبقدر ما تكون هناك مخاطر وتحديات، هناك أيضاً العديد من المؤشرات الإيجابية والمهمة جداً، منها على سبيل المثال لا الحصر، استقبال القائد العام للإدارة الجديدة فاروق آل ثاني. -الشرع؛ نائب الرئيس السابق بشار الأسد، ودعاه للمشاركة في الحوار الوطني الذي سيحضره ممثلون عن مختلف مكونات الشعب السوري. الجميع يعرف ثقل فاروق الشرع، وأهمية مشاركته في الفترة الحساسة، في لقاء سيحدد طبيعة المرحلة وزعماء مستقبل سوريا.
ولاقت هذه المؤشرات ترحيباً واسعاً من قبل الكثيرين داخل بلاد الشام وخارجها. وليس من المنطقي أن يتعمد بعض التونسيين إخفاء هذا الجانب المشرق من المشهد، والاستمرار في الحديث عن الوضع السوري بنفس الأسلوب المنحرف المليء بالكثير من الأخطاء والمغالطات. وبدلاً من مراجعة خطابهم السابق، يصرون على خلط الأوراق والمعلومات. من أجل مهاجمة خصومهم الداخليين الذين لا علاقة لهم بما يحدث في دمشق.
تمر سورية بظروف صعبة، وبقدر ما تكون هناك مخاطر وتحديات، هناك أيضاً العديد من المؤشرات الإيجابية والمهمة جداً.
ولا يمكن الاعتماد على قصة التونسيين الذين باعوا أنفسهم لداعش وغيرها من التنظيمات المتطرفة في فهم الصراع الدائر في تونس بين السلطة ومعارضيها، أو في تعكير العلاقات التونسية السورية التي يجب دفعها نحو الانفتاح والتعاون. لقد أصبحت هذه الورقة محترقة، وفقدت مصداقيتها، وأصبحت غير مقنعة، إذ أن هناك متغيرات تثبت عكس ذلك تماما. واشتد العداء بين هذه الجماعات وهيئة تحرير الشام، ولا يوجد مؤشر واحد يؤكد وجود مخطط لدى القيادة السورية الحالية يهدف إلى الإضرار بتونس ومصالحها. وهذه فكرة خيالية يجب طردها من أذهان الناس وعدم البناء عليها.
ولا ينبغي فهم استقبال السفير السوري الجديد في الدوحة لممثل حركة النهضة على أنه عمل عدائي ضد النظام التونسي، بل يمكن تفسيره على أنه انفتاح من قبل السلطة الجديدة في دمشق على مختلف الدول والحركات. وخاصة من أيدوا ما حدث ووصفوه بالثورة المباركة، كما فعل راشد الغنوشي. وذهب في رسالة التهنئة إلى أبعد من ذلك عندما تحدث عن أحمد الشرع باعتباره “القائد الصامد”. لكن لم يصدر أي بيان من شأنه المساس بتونس أو أمنها القومي، إذ سبق لأحمد الشرع أن استقبل مسؤولا تركيا رفيع المستوى، وكان برفقته شخصية من مصر محكوم عليها بالإعدام. لكن القاهرة اكتفت بتسجيل الحدث، دون أن تجعله قضية لإحداث أزمة دبلوماسية مع السلطات السورية الجديدة، خاصة أن أحمد الشرع قال في وقت سابق في تصريح له: الثورة السورية انتهت و”لن نسمح بها” للتصدير.”
ولا بد من بناء الثقة بين تونس وسوريا، لكن هذا لا يعني التخلي عن الحذر وعدم الالتفات إلى ما قد يحدث على طول الطريق. يقول المثل التونسي: “اقرأ سورة يس وامسك بيدك حجرا”. بلاد الشام بلد عزيز على قلوب التونسيين.