ولا مبالغة في استخدام كلمة زلزال لوصف تلك الليلة الدمشقية الطويلة. الانهيار أسرع مما كان يأمل المعارضون. تراكمت الأمطار وحدث الفيضانات. والجيش غير مستعد لمواجهة الفيضان. كما أن إيران ليست قادرة. كما أن روسيا ليست راغبة في ذلك. حزب الله منهك. أدرك سيد القصر أن إعادة زمن التفاهم بين سليماني وبوتين أمر مستحيل. لقد شعر أن ما كتب قد كتب. يحدث هذا في بعض الأحيان. وتتراكم أخطاء الحاكم، ولم يبق إلا طريق المنفى الذي يجب أن يسلكه. صعد إلى الطائرة ورحل.
استيقظت سوريا ووجدت صعوبة في التصديق. ولم تجد الرجل الذي ظل يمسك بخيوط مصير الوطن وشعبه منذ أربعة وعشرين عاماً. الرجل الذي كان يعتقد أن حاله مختلف عن الآخرين ومصيره مختلف عن مصيرهم. ولم يتوقع أن تتقدم دبابة أميركية لتقتلع تمثاله، كما فعلت في ساحة الفردوس ببغداد مع تمثال صدام حسين.
ولم يقلق عندما رأى على الشاشة الليبيين يلاحقون معمر القذافي وينهيون حياته وعهده. ولم يخطر بباله أنه قد يواجه المصير الذي واجهه علي عبد الله صالح على يد الحوثيين. ولم يمر وقت طويل حتى مثل حسني مبارك أمام المحكمة. ولم يتخيل قط أنه سيواجه مصيرا مماثلا لمصير زين العابدين بن علي عندما هرع إلى طائرة تعمل على طريق المنفى هربا من “ربيع الياسمين”.
كان الأسد واثقاً في أعماقه من أنه قوي ومختلف وقادر على صد العواصف، خاصة بعد نجاح طائرات بوتين وميليشيات سليماني في كبح إعصار «الربيع». ورأى الأسد أن والده أورثه نظاماً قادراً على مكافحة الحرائق واحتواء الزلازل.
حدثت زلازل كثيرة خلال فترة حكمه الطويلة. لقد عاش زلزال 11 سبتمبر 2001، وأمر الأجهزة الأمنية بالتعاون بشكل محدود مع الأميركيين. ولم يكن حينها ذا ميول إيرانية، لكن الغزو الأميركي للعراق دفعه إلى سلوك طريق طهران. وخشى أن يكون «البعث» السوري هو الهدف التالي للحملة الأميركية بعد «البعث» العراقي.
تلاقت مصالح النظامين السوري والإيراني على العمل على زعزعة استقرار «البنية الأميركية» في العراق. وبتشجيع من قاسم سليماني، فتحت سوريا حدودها أمام “المجاهدين” الذين أرادوا مقاومة الاحتلال الأمريكي هناك.
الزلزال الثاني سيأتي من بيروت. في 14 فبراير 2005، تم تفجير جثمان رفيق الحريري في العاصمة اللبنانية. الغضب اللبناني العارم أجبر الأسد على سحب قواته من لبنان. وكان من الشائع في سوريا أن تتراجع الدولة التي توسعها حافظ الأسد في عهد ابنه.
وفي عام 2006، خشي حزب الله من أن تؤدي “حركة 14 آذار” اللبنانية إلى تغيير موقف لبنان الإقليمي، فدخل في حرب مع إسرائيل وساهم في كسر عزلة دمشق.
في بداية العقد الماضي هبت رياح «الربيع». وكان الأسد يعتقد، كما اعتقد كثيرون استناداً إلى تجربة ميخائيل غورباتشوف، أن فتح النافذة لن يؤدي إلا إلى دخول العاصفة. لقد قمع الاحتجاجات وذهب إلى أبعد من ذلك وبإسراف. مئات الآلاف من القتلى وملايين النازحين والبراميل والأسلحة الكيماوية. اقتربت المعارضة من قصره، لكن التفاهم بين بوتين وسليماني ساعده على ردع الزلزال.
وظهر الأسد على الساحة السورية عام 2000، بعد ستة أشهر من ظهور رجل اسمه فلاديمير بوتين على الساحة الروسية والدولية، وقبل عامين من ظهور رجب طيب أردوغان. وإذا أضفنا إلى بوتين وأردوغان اسم المرشد الأعلى علي خامنئي، فإننا نعرف الرجال الذين تركوا بصماتهم على مصير الأسد.
وفي أحد الأيام، لم يتردد بوتين في انتقاد أخطاء الأسد أمام وفد عراقي زائر شارك في الشكوى ضد الرئيس السوري. لكن حساباته ستختلف عندما قرر تتويج عملية استعادة شبه جزيرة القرم بمحطة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، عبارة عن تدخل عسكري جوي برفقة ميليشيات سليماني المتعددة الجنسيات.
وكانت علاقة الأسد بأردوغان غريبة. استمر الحب لفترة طويلة، ثم استغرق الانتقام وقتا طويلا. الأسد اعتمد على الوسادة الإيرانية، مؤمناً بتشجيع متواصل من حسن نصر الله. أصبح حزب الله أقوى من الجيش السوري في سوريا، وتعمقت حساسيات البنية السورية. ولم تبخل إيران في دعم نظام الأسد، فسورية ممر إلزامي على الطريق الذي يربط طهران ببيروت، وهو طريق «المقاومة» والصواريخ.
وعندما أطلق يحيى السنوار «طوفان الأقصى» وتبعه نصر الله في إعلان «جبهة الدعم»، حاول الأسد إبعاد كأس وحدة الساحات عن شفتيه. لقد دخل اللعبة الكبيرة محارب شرس وعدواني اسمه بنيامين نتنياهو، وسيترك بصمته أيضاً على مصير الأسد. نتنياهو دمر غزة فوق رؤوس أهلها، ثم تحرك في زمن الانتخابات الأميركية لمحو قيادة حزب الله وتعزيز عموده الفقري.
اضطربت الأرصدة. وفي إدلب، كان معارضو الأسد ينتظرون الفرصة. ولم يصدقوا قط قصة “خفض التصعيد”. وفيما يتعلق بـ«توقيت ترامب»، اختار أردوغان معاقبة الأسد الذي رفض مراراً عرض اللقاء. معاقبة الأسد والأكراد السوريين معه. أشعل الشرارة أحمد الشرع الملقب بـ”أبو محمد الجولاني”. وتجمعت الأمطار الكامنة وتقدم الفيضان إلى حلب، ومنها إلى حماة، ثم إلى دمشق وحمص. سليماني غائب وكذلك حسن نصر الله. الدليل ليس لديه حل. بوتين يغرق في بحيرات من الدم الأوكراني.
كانت ليلة القدر الدمشقية سريعة ومفاجئة. غيرت مصير سوريا بتوازناتها وخصائصها وموقعها الإقليمي. لقد غيرت المشهد في المنطقة. وقطع طريق تصدير الثورة والصواريخ بين طهران وبيروت. أعادت حزب الله من دوره الإقليمي إلى الإقامة تحت خيمة القرار 1701. وفي ليلة سورية هزت التوازنات في لبنان.
كان المشهد بالأمس مختلفا. سوريا بدون الأسد. وبدون مستشارين إيرانيين. ومن دون حزب الله. صعد بشار الأسد إلى الطائرة وغادر. لقد تم نسيان حقبة بأكملها. وغادر السيد الرئيس سوريا والمنطقة في مواجهة مطالب وتحديات “اليوم التالي”.
الشرق الأوسط