تباينت ردود الفعل في تونس بين نشطاء سياسيين وحقوقيين ومدونين بشأن الحكم بالسجن على “صانع محتوى”، فضلا عن إصدار بطاقات إيداع في حق أربعة “ناشطين” على منصات التواصل الاجتماعي. وقبل أيام، قضت الدائرة التاسعة بالمحكمة الابتدائية بتونس بسجن “صانع محتوى” أربع سنوات وستة أشهر، ورفضت إطلاق سراح أربعة آخرين من “صناع المحتوى” على شبكات التواصل الاجتماعي، وتأجيل النظر في قضيتهم. القضية لفترة مقبلة بناء على طلب المحامين لمزيد من المعلومات. ملفات الإحالة. أما مبرر الحكم فهو اعتداء على الأخلاق الحميدة واعتداء على كرامة الآخرين.
بعد أحداث 25 يوليو 2021، يستعد مجلس نواب الشعب المنتخب لتقديم “مبادرة تشريعية تهدف إلى تنظيم محتوى مواقع التواصل الاجتماعي”.
وتنوعت ردود الفعل بين ثلاث وجهات نظر أساسية:
أولاً: رؤية ترفض أي إجراء يصدر عن سلطة لا يرونها حامية للأخلاق. لأنها تحارب الحريات وتزج المعارضين في السجون وتريد توسيع مجالات القمع لتشمل الفضاء الاجتماعي وتحت شعار حماية الأخلاق ولكن الحقيقة بالنسبة لهم هي حماية السلطة نفسها من النقد وهي تريد الانتشار الخوف من إسكات كل صوت معارض، سواء كان صوتاً سياسياً أو فكرياً أو ثقافياً أو فنياً أو… دينياً، لا يمكن للاستبداد أن يكون معلماً للأخلاق أو مثالاً للاستقامة.
إن الأخلاق لا تحميها السلطة، بل تحميها وعي المجتمع، وأن المجتمعات الحرة هي تلك التي تعالج انحرافاتها بنفسها من خلال المزيد من الحرية، والمزيد من الوعي، والمزيد من الخبرة، حيث يوجد الحق والباطل، حيث الحرية. التفكير والنقد.
ويعبر أصحاب هذه الرؤية عن انحياز مطلق لفكرة الحرية، ويرون أن الأخلاق لا تحميها السلطة، بل يحميها وعي المجتمع، وأن المجتمعات الحرة هي تلك التي تعالج انحرافاتها بنفسها من خلال المزيد من الحرية والمزيد من الوعي، والمزيد من الخبرة، حيث يوجد الصواب والخطأ، وحيث يوجد التفكير الحر. وهو النقد.
ثانياً: رؤية تؤمن بأن الأخلاق لا يحمى بالوعي فحسب، بل بالقانون أيضاً. فالناس ليسوا على نفس مستوى الوعي والصلاح الذاتي، بل منهم من تسيطر عليه غرائزه وأهواؤه، فيسيء إلى القيم والأخلاق المشتركة ويهاجم الآخرين بفهمهم الخاطئ للحرية الشخصية. وهنا لا بد من وجود سلطة تسود عليهم بالقانون. ويمنع اعتداء بعضهم على البعض الآخر، ويوبخ أقلية من المنحرفين حتى لا تضطرب حياة الأغلبية وأمنها.
وطبعاً يفرق أصحاب هذه الرؤية بين ما هو حرية وما هو أهواء وأنانية. ولا يمكن الدفاع عن من يتعمد الاعتداء على الأخلاق والإساءة إلى الآخرين عمداً بالتشويه والافتراء، سواء في الحياة العامة أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي. إنهم ليسوا “صناع المحتوى”. إنهم صانعو التفاهات لأنهم مروجي الرذائل، وقد يكونون أدوات في أيدي دوائر تستهدف شبابنا لصرفهم عن قضايا وطنهم وأمتهم نحو التفاهات والأهواء التي يهدرون فيها طاقتهم ويهدرون حياتهم. ، حتى يتمكن الأعداء من السيطرة على بلداننا وسيادتنا.
ثالثاً: رؤية تدافع عن الحرية والأخلاق في نفس الوقت، ولا ترى تناقضاً بين حماية الأخلاق بالوعي وحمايتها بالقانون. إن الأخلاق، باعتبارها زينة الحضارة الإنسانية، هي نتاج الكدح الروحي، والتهذيب الأخلاقي، والتربية الجمالية. إنها عملية لا تكل وتتطلب جهدا جماعيا وإحساسا مشتركا بالمسؤولية، بدءا من الأسرة. مروراً بالمؤسسة التعليمية، ثم إلى المجتمع فيما يتعلق بالعلاقات العامة والمعاملات. فالدولة هي الإطار الأوسع الذي تتخمر فيه الفلسفة الأخلاقية وتهذب القيم من خلال التوجيه والنصح والتوعية، ومن ثم من خلال نشر الثقافة القانونية قبل الانتقال إلى تطبيق القانون.
وكثير ممن تطغى عليهم أهواؤهم لا يحترمون القانون، ولا يتمسكون بالقيم الأخلاقية، وليس لديهم وازع إيماني أو وعي رادع. فهم متهورون بشكل يهدد نسيج المجتمع ويغري الأطفال القاصرين بمتابعتهم لتنتشر المشاكل إلى الأسرة، فيجد الآباء صعوبة في تربية بناتهم وأبنائهم تربية سليمة. خاصة في زمن سيل المعلومات والطوفان الإعلامي وازدحام البرامج والفوضى على منصات التواصل الاجتماعي.
من المؤكد أن أولئك الذين يشعرون بالقلق من نوايا السلطة على حق. لا توجد سلطة إلا وتميل إلى الاستبداد، ولا توجد سلطة إلا وترفع شعارات جميلة للتغطية على الممارسات السيئة. ويرتفع هذا التخوف كلما انغلقت السلطة على نفسها، وانعزلت في رأيها، وترفض الحوار، وتقمع منافسيها. وهنا ستكون الأخلاق ضحية مرة أخرى.
من المؤكد أن أولئك الذين يشعرون بالقلق من نوايا السلطة على حق. لا توجد سلطة إلا وتميل إلى الاستبداد، ولا توجد سلطة إلا وترفع شعارات جميلة للتغطية على الممارسات السيئة. ويرتفع هذا التخوف كلما انغلقت السلطة على نفسها، وانعزلت في رأيها، وترفض الحوار، وتقمع منافسيها. وهنا ستكون الأخلاق ضحية مرة أخرى. وهي ضحية منتهكيها، وهي أيضاً ضحية سلطة لا تحترم الحريات وتختبئ خلف شعار حماية الأخلاق لتمرير رغبتها في بسط الهيمنة والاستبداد.
وفي المقابل، فإن المستهترين بالأخلاق سيكونون أكبر المستفيدين من “الحرية السائلة”، حيث سيجدون الجرأة على انتهاك العرض ونشر الرداءة والتشجيع على الرذيلة كما يحدث اليوم في بعض القنوات وفي العيون. للسلطة نفسها.
إن دراسة الأخلاق والقانون، أو الأخلاق والحرية، ليست مجرد دراسة نظرية، وليست دراسة دينية أو فلسفية أو قانونية أو سياسية. بل هي دراسة عملية حضارية تتعلق بالتنمية الإنسانية في أمنها وسلامتها واستقرارها وحضارتها. إنها دراسة تتجاوز الغرائز، وتتجاوز التوحش، وما هو أعلى. من التفاهة.
وهو موضوع يحتاج إلى أصحاب إرادة، وذوي عزيمة، وأهل صدق، وهذا ما لا تستطيع أن تفعله الأنظمة السياسية التي تميل إلى الاستبداد وتعتمد في كثير من الأحيان على العبث والانتهازيين.
Discussion about this post