العدو الصهيوني يواصل غباءه الإعلامي الذي إن دل على شيء فإنه يدل على عقليته المريضة نفسيا! حاول إظهار يحيى السنوار محطماً ومهزوماً ومذلاً في لحظاته الأخيرة، محاصراً في مبنى مهجور، ثم جثة هامدة بعد قصف المبنى الذي كان محاصراً فيه.
لكن الحقيقة أن هذه الصور خلدت صورة السنوار في ذهن الشارع العربي، في أبهى صور المقاومة وعدم الاستسلام.
استثمر الوقت
اعتقل يحيى السنوار وهو في السابعة والعشرين من عمره فقط، ثم أطلق سراحه وهو على أعتاب العقد الخامس من عمره، لكنه طوال الفترة التي قضاها في السجن كان يفكر باستمرار في الوطن وكيفية تحريره من الصهيونية. الاستعمار فدرس المجتمع الإسرائيلي واستطاع فهم عقليته وتمكن حتى من تعلم اللغة العبرية. فبدأ يتحدثها بطلاقة، وحرص على استثمار الوقت، وكأنه في سباق مع الزمن. وتحدث كثيرون عن حرصه على ارتداء ساعة في معصمه حتى وهو في السجن، رغم أن الوقت لا معنى له خلف القضبان، ناهيك عن سجين محكوم عليه بالسجن المؤبد أربع مرات مع خمسة وعشرين. سنوات إضافية!
أطلق سراح السنوار من السجون الإسرائيلية بعد اثنين وعشرين عاماً، وهنا بدأ سباقه الحقيقي مع الزمن. أول ما لفت انتباهه هو السياج الذي يحيط بغزة ويحاصرها. فسأل رفاقه قائلاً: لماذا لا تكسرون هذا السور؟ فقالوا له أن الأمر أعقد مما تظن، فقال: سأكسر هذا السلك!
فهل كان من قبيل الصدفة أن صور استشهاده أظهرت لنا بوضوح ساعة يده التي يرتديها دائما، منتبها للوقت ومجتهدا في استغلاله على أفضل وجه، حتى وهو محاصر في غزة، تحت الأرض وفوق الأرض، وحتى بينما هو يخوض معركته الأخيرة؟
فهل كانت مصادفة أنه في اشتباكه الأخير مع العدو «كسر السلك» وربطه بذراعه اليمنى التي أصيبت بجراح خطيرة، وذلك من أجل وقف النزيف، لتبقى صورته في الأذهان أجيال بأكملها، أنه هو الذي “كسر السلك” في مواجهة الصهاينة مرتين، مرة عندما دمر السياج وكسر صورة “الجيش الذي لا يهزم”، ومرة عندما كان محاطا بجنود العدو المدججين بالسلاح، ولم يفقد أعصابه، واستطاع، رغم كل الجروح التي أصابت جسده، أن يحاول استعادة ذراعه ووقف نزيفها، حتى لا يموت، قبل أن يرمي آخرها. كمه!
ولا أظنها صدفة، فكما قال رسولنا الكريم: من عاش على شيء مات عليه، وهذه النهاية بهذه التفاصيل، وكل هذه الرمزيات في المشهد، لم تكن عفوية على الإطلاق، بل كانت نتيجة العقيدة والمنهج الذي عاش عليه حياته كلها، ومن أجله استشهد.
وهناك صورة مشهورة جداً للسنوار وهو يتحدى الاحتلال، وهو يجلس على أريكة ممزقة على أنقاض منزله الذي دمره القصف الإسرائيلي، وهو يبتسم ويقول: «هنا باقون ما بقي الزعتر والزيتون!» “
وفي لحظاته الأخيرة، لجأ السنوار إلى منزل على وشك الانهيار، حيث علق الغبار في الهواء. وكانت يده اليمنى غير قادرة على الحركة، مقيدة بسلك حتى لا تسقط بكل معنى الكلمة. وأصيبت قدمه اليسرى بجروح بالغة، مما منعه من الوقوف. تم توجيهه إلى أريكة ممزقة. قضى عليها وقتا وشرب فجلس عليها متحديا جنود الاحتلال من جديد مسلحا بقطع أثاث مكسورة ألقاها على مسيرة إسرائيلية أرسلها جنود جبناء لم توفر لهم ترسانتهم الثقة اللازمة للانطلاق اقتحام المبنى بأنفسهم!
وكانت آخر رسالة سنوار لنا جميعا: قاوم ولو بالعصا، قاوم ولو بحجر، بكلمة إن لم يكن برصاصة!
في بداية مسيرتي المهنية شاركت في دورة متقدمة لتعلم المحادثة باللغة الإنجليزية في المعهد الثقافي الأمريكي في عمان. في أحد الأنشطة طلب منا كتابة مقال عن أحد الأفلام الأجنبية التي أثارت اهتمامنا وقراءته أمام الطلاب الآخرين.
قررت أن أكتب عن فيلم «القلب الشجاع» للمخرج والممثل ميل جيبسون، والذي لاقى رواجاً في ذلك الوقت. بعد أن بدأت الكتابة، تساءلت لماذا لم أكتب عن فيلم يتعلق بقضايانا العربية. ثم جاءتني فكرة الكتابة عن فيلم “عمر المختار”، وبالفعل كتبت عن ذلك الفيلم وعن الصراع العربي مع الاستعمار الغربي في المنطقة، وأنهيت حديثي بالجملة التالية “سوف يأتي”. “. ستحاربكم أجيال من بعدي، أما أنا فعمري سيكون أطول من عمر سجاني».
خطرت في ذهني هذه الجملة بالذات وأنا أتابع الأخبار وأتأمل الصور التي انتشرت كالنار في الهشيم بعد إعلان استشهاد السنوار.
السنوار خاض معركته الأخيرة. ألقى الذخيرة التي كانت في جعبته وأطلق رصاصته الأخيرة. جلس على الأريكة لأنه صاحب المنزل، تحدى سجانه، وقاتله. ثم تسلّح بما استطاع أن يلتقطه من الأرض، فرماه على عدوه. لم يستسلم بعد أن تعطلت ذراعه وقدمه، حتى بعد أن أدرك أنه سيموت لا محالة. لم يصنع السلام، ولم يفاوض، ولم يستسلم!
ولكل هذا سيعيش السنوار في ذاكرة ومخيلة الفلسطينيين والعرب والشرفاء في هذا العالم، وسيبقى في كتب التاريخ إلى الأبد. أما سجانيه وقتلته فلن يذكرهم إلا القليل!
شهادة
أبكيتك يا أبا إبراهيم. نعم، لقد جعلتك تبكي. لا أذكر أنني بكيت على وفاة شخصية عامة من قبل!
بكيت من أجلك لأنني شعرت بالكسر. ولم أشأ أن أكتب كلماتي هذه تأبيناً لك. بل تمنيت على نفسي أن أكتبها احتفالاً بالنصر، أي انتصار ولو كان ناقصاً أو مؤقتاً. وأما الشهادة فإنها تنفع صاحبها. فماذا نفعل بعدك وشهادتك كانت شهادة علينا؟ !
القدس العربية
Discussion about this post