عندما كانت القذائف الصاروخية الإسرائيلية تحرق العشرات من سكان غزة الفلسطينيين أحياء في مخيمهم العشوائي شمال قطاع غزة، في الرابع عشر من الشهر الجاري، كانت وزيرة الخارجية الألمانية تدعي أمام برلمان بلادها أن من حق إسرائيل قصف المواقع المدنية إذا وكان ذلك جزءًا من دفاعها عن نفسها وأمنها.
كلام الوزيرة أنالينا بيربوك صادم ومثير للاشمئزاز، ويجردها من إنسانيتها ومروءتها وأخلاقها. كما أنه تشجيع ومشاركة في الإرهاب الإسرائيلي الذي يجب أن يحاسب عليه أخلاقيا وسياسيا وجنائيا. إلا أن تأثيره كان سيكون أقل لو أنه صدر في سياق سلمي بعيد عن الإبادة الجماعية الحالية التي ترتكبها إسرائيل في غزة.
هناك عقدة ألمانية تجاه اليهود وإسرائيل مستمرة منذ ما يقرب من تسعين عامًا
للوهلة الأولى يبدو كلام الوزير غير مبرر. لكن عندما ينظر المرء إلى بعض خصوصيات العقدة الألمانية تجاه اليهود وإسرائيل، يتبين أنها تعبير عن موقف نابع من إرث كبير ومعقد، وليس من فراغ. هناك عقدة ألمانية تجاه اليهود وإسرائيل مستمرة منذ ما يقرب من تسعين عامًا. ويمكننا أن نسميها سلسلة التوبة، أو طريق التكفير عن خطايا الآباء والأجداد.
إن عقدة الذنب كبيرة ومتجذرة بعمق في الضمير الجماعي الألماني. ولهذا السبب فإن الأمر باهظ الثمن، ووثيقة التوبة مفتوحة، ليس لها سقف، ولا تعيقها أي محرمات، إذ من حق الألمان اليوم أن يضطهدوا أي شخص وأن يفعلوا أي شيء لإرضاء إسرائيل.
وبلغ العقد ذروته عام 2008 عندما ربطت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، أمام الكنيست الإسرائيلي، مصير البلدين ببعضهما البعض، قائلة إن أمن إسرائيل جزء من الأمن القومي لألمانيا. دخلت العبارة القاموس السياسي الألماني، وكررها المستشار أولاف شولتز بعد أيام قليلة من «طوفان الأقصى».
وطالما قبلت ألمانيا هذا الفخ، كان عليها أن تتحمل الحساب المفتوح. وهذه بعض طرق الدفع:
وفي الصيف الماضي، عدلت الحكومة الألمانية قانون التجنيس ليشمل إضافات، بما في ذلك اعتراف مقدم الطلب بحق إسرائيل (وليس ألمانيا) في الوجود ودعم القيم اليهودية (وليس المسيحية). ولم تفاجأ الصحافة الألمانية والغربية بهذه التعديلات، بل اعتبرتها مراجعة ضرورية لتعزيز الالتزام بقيم المجتمع الألماني. وبذلك يصبح أمن إسرائيل جزءاً من قيم المجتمع الألماني.
وزودت ألمانيا إسرائيل العام الماضي وحده بمعدات عسكرية حساسة بقيمة 300 مليون يورو (الأسلحة العادية موضوع آخر).
تحركت ألمانيا بشكل علني وفظ، ولا تزال، لإحباط جهود المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت أمام العدالة الدولية. وباستثناء الولايات المتحدة، لم تفعل أي دولة على وجه الأرض لإسرائيل في هذه القضية (وغيرها) ما فعلته ألمانيا.
تقوم المؤسسات الصحفية الكبرى في ألمانيا (على رأسها أكسل سبرينغر، وهي الأكبر في أوروبا كلها) بفحص المتقدمين للعمل لديها في القضايا المتعلقة بإسرائيل وأمنها وحقها في الوجود. ويتم فحص خلفياتهم الأمنية والثقافية على هذا الأساس وليس على أساس مهني أو حتى من منظور المصالح الألمانية.
لدى ألمانيا منصب حكومي رسمي يسمى “الحاكم الحكومي لمكافحة معاداة السامية”، وهو يراقب كل ما يتعلق باليهود ويعمل بشكل وثيق مع قادة الجالية اليهودية في ألمانيا وأوروبا.
ولكن من كان يتوقع أن الفخ الذي قبلته ألمانيا لنفسها سيستهدف اليهود الإسرائيليين؟ وهنا حادثة تستحق التأمل: في فبراير الماضي، فاز المخرج الإسرائيلي الشاب يوفال أبراهام بجائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان برليناله، أكبر مهرجان سينمائي في ألمانيا، عن فيلمه «ليس هناك أرض أخرى» الذي يتناول القضية الإسرائيلية. هدم الجيش لمنازل الفلسطينيين في الضفة الغربية. (الفيلم شارك في إخراجه المخرج الفلسطيني باسل عدرا).
عادة ما يكون يوم إعلان الفوز بجائزة سينمائية كبرى تاريخياً واستثنائياً. لقد كان يوم انتصار إبراهيم استثنائيًا حقًا، ولكن ليس بالطريقة التي كان يأملها أو يتوقعها. الرجل اليهودي الإسرائيلي فتح أبواب الجحيم على نفسه من اليهود المتطرفين، بل ومن الألمان أكثر. كيف؟ لأنه لامس المحرمات في ألمانيا: بما أن «البرلينالة» فرصة لا تخلو من التلميحات السياسية، ولأن حرب الإبادة على غزة كانت في ذروتها في ذلك الوقت، وكالعديد من الفائزين في المهرجانات الدولية، اختار أبراهام « أدخل عبارة “الفصل العنصري الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية” في كلمة الشكر القصيرة التي ألقاها عند استلام الجائزة.
وفي اليوم التالي، اصطف سياسيون وشخصيات ثقافية وإعلامية ألمانية للمطالبة برئيس المخرج الإسرائيلي. عقدة توبته أخذتهم إلى حد اتهامه بمعاداة السامية، فتنوعت مطالبهم بين من يطالب بسحب الجائزة منه ومن يقترح منعه من دخول الأراضي الألمانية.
ووسط سيل الاتهامات الألمانية والتهديدات بالقتل ضده من يهود متطرفين، وجد أبراهام متسعا من الوقت للرد على من أشعلوا له المشنقة: من العار أن يتهمني الألمان بمعاداة السامية في عام 2024. : إذا كانت هذه طريقتك للتوبة والتكفير عن ذنوب تاريخك، فأنا لا أريدك أن تتوب.
فهل نستغرب بعد ذلك أن الوزير بيربوك لا يخجل من القول إن حرق النساء والأطفال أحياء في غزة ضرورة أمنية لإسرائيل؟
وأعتقد بحسن نية أن الهدف من توأمة مصيري البلدين هو خدمة اليهود ودولة إسرائيل من جهة، والتكفير عن ذنب المحرقة من جهة أخرى. إلا أن الأمر انحرف إلى انتقاد كل من قال الحقيقة عن فلسطين، وإلى دعم الحكومات الإسرائيلية، وخاصة الحكومة العنصرية الحالية، في حروبها ضد الفلسطينيين.
تبدو ألمانيا مستسلمة وغير راغبة في الهروب من فخ عملية التوبة
تبدو ألمانيا مستسلمة وغير راغبة في الهروب من فخ عملية التوبة. ويبدو أيضاً غير قادر على تحديد إطار زمني يحدد مدى صلاحية هذا المسلسل الذي يبدو وكأنه طريق فارغ لا نهاية له وشيك.
والمشكلة هي أن الحساب المفتوح كان له عواقب وخيمة على المجتمع الألماني. وبالإضافة إلى استنزاف أموال دافعي الضرائب الألمان، هناك الثمن الأخلاقي، وهو الأخطر، لأنه يعني قتل حرية الفكر، ومصادرة الآراء، ونشر الخوف. وما يزيد الأمر خطورة هو أن الآراء لا تُصادر إلا عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، في حين أن كل المواضيع الأخرى مباحة مهما كانت مقدسة وثمينة في نظر أصحابها.
أحد الأسئلة المطروحة على صناع القرار وصناع القرار في ألمانيا اليوم هو ما إذا كانت نظرتهم غير الطبيعية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني فضيلة أم رذيلة؟ هل يجب أن نعلن البراءة ونتوب أم نلتزم بذلك؟ لماذا يعني دعم إسرائيل التزام الصمت إزاء قتل الفلسطينيين، بل والمشاركة فيه والتحريض عليه، كما فعلت وزيرة الخارجية؟ لماذا يجب أن يكون ثمن دعم إسرائيل واليهود هو قمع المظاهرات والأنشطة المناهضة لحرب الإبادة الجماعية على غزة؟
فهل يدرك المسؤولون الألمان خطورة الفخ الذي نصبوه لأنفسهم ويصرون على توريثه للأجيال القادمة؟ بالطبع نعم، وغالباً ما يريدون التخلص منه. لكن من يقرع الجرس؟
القدس العربية
Discussion about this post