كيف نحزن عليك وأنت على قيد الحياة؟ هل نبكيك وأنت تعيش في عقولنا وقلوبنا؟ بل كيف نكتب لك نعياً وشخصيتك ومثلك ومبادئك لن تفارق الروح؟ الحداد والرثاء والبكاء على من رحل وأنت بقيت ولم ترحل.
كذبوا… كذبوا. مثلك لن يعيش في الأنفاق، ولن يحتمي مثل غيرك في الطابق السابع من الأرض، ولن يحتمي بالرهائن. لقد ابتعد الموت عنكم دائمًا مئات المرات، ربما خوفًا على هذه الأمة أن تأخذ منها آخر القديسين. لذلك لا تحتاج إلى كل ذلك لحماية نفسك.
ألست أنت القائل (نخاف الموت في فراشنا كما يموت البعير) يا خالد بن الوليد لدرجة أنني كأني الشاعر المتنبي يقوم من قبره ويغني مرة أخرى لأجلك وحدك (قمت ولا شك في الموت للقائم، كأنك في جفن الرماد وهو نائم).
لقد انتقدوك يا سيدي على عنادك في حقيقتك، وقالوا إنك من أشد الصقور في مواقفك، لكنهم نسوا أن الثبات على الحق وعدم التهاون فيه أو التنازل عنه لا يعني التطرف. كيف تتنازلون عن حق شعبكم الذي قضيتم من أجله عقدين من الزمن مسجونين ثم مضطهدين في أرضكم؟
دعهم يا سيدي يقولوا ما يقولون. ولم يمنعك منظر يدك اليمنى المقطوعة من رمي عصاك على عين عدوك الذي كان يراقبك، رغم أنك في الملاذ الأخير. فزعوا منك ولم يجرؤوا على الاقتراب منك، ثم أسروك، وكأن الأقدار شاءت ألا تمنحهم فرصة الشماتة بك، وأنت بين أيديهم، فيقولون: انتصرنا “السنوار”، ثم يختلقون قصصًا عن أنهم وجدوك مختبئًا في نفق ويستخدمونك كرهائن لديهم.
لقد كذبوا…لقد كذبوا يا سيدي. ليس هناك أحد من الرجال باع حياته لفلسطين مثلك واستمر في المقاومة. لقد استطعت أن تشتري حياة لأشهر أو سنوات قليلة، بالمساومة على قضيتك، لكنك تعلم جيدا قصة عبد الله الصغير، آخر أمراء الأندلس، وحاشا لك أن تجعل فلسطين أندلسيا أخرى، لأنك أنت الذي أنبتت في كل ذرة من ترابها براعم شجرة الزيتون فيها.
رحم الله عبد الله بن رواحة الذي استشهد شهيداً في المعركة وهو يمجّد رسول الله، وذهبت أنت شهيداً مستقبلاً تمجّد فلسطين وشعبك. لا يعرف فلسطين إلا من يعاني من الشوق، ولا يعرف فلسطين إلا من يعاني منها، ولا تعاني فلسطين إلا من فارس من أهلها. جعلته ضميره الذي لا ينام وعقله لا يكل، وكنت الضمير الذي يرى ويسمع والحبيب الذي يهيم على وجهه عاشقاً لها. سيدي، لقد كتبت تاريخ فلسطين منذ أول مواجهة لك مع العدو، ومنذ أول يوم دخلت فيه السجن، وأصدق التواريخ تلك التي كتبت في سنوات القمع والاضطهاد، وأشرف الرسائل والجمل. هي تلك المكتوبة على جدران سجون العدو، حتى أصبحت التاريخ والوثيقة الحقيقية.
وكيف لا وأنت ابن أرض فلسطين وسمائها وبحرها وهوائها، وأبناء فلسطين لا يستوردون ولا يرتمون في أحضان غير أمتهم. لذلك قمت بعمل نموذجك على شكل هندسي عربي وبأحرف عربية وليست أجنبية. لقد كانت مهمتكم شاقة وصعبة، حيث أنشأتم صداً للرياح القادمة من كل حدب وصوب، وحاولتم بلا كلل تحصين الخيم العربية، وحشد كل ضمير عربي من أجل فلسطين.
إن أسوأ ما واجهته يا سيدي هو أولئك الذين كانوا يعتبرونك من أهلك، لكنهم رفضوا أن يفتحوا نوافذهم للعدو ويديروا لك ظهورهم. كان هذا مشروعكم لتعبئة الأمة، وكنتم تعلمون جيداً ما ستواجهونه، ليس من الناس الذين أصموا آذانهم واتهموكم بمختلف التهم، بل ممن فتحوا النوافذ للعدو، وتسربت سمومهم. في كل زاوية، وبدأوا يشتمونك ومن معك في خنادق الجهاد.
السلام عليك سيدي أيها القديس المتعب الملبس تراب الوطن، وأنت ترسم خطوط الحياة الحرة الكريمة، وترسم طريق الحرية والكرامة بأدق التفاصيل، ودون كلل… السلام عليك يا من سفك الدماء بسخاءك وأنت المتبرع الكريم.. السلام عليك لأنك كنت تستحضر تاريخ أمتك في كل خطوة. وساعة… السلام عليك فأنت الذي ينفعل ولا يزايد، الذي رسم أجمل صورة وهو جالس وحيدا على كرسيه، وما زال يقاتل… السلام عليك كما أنت نظم أعظم أعمال الشعر العربي وعلقها على جدران فلسطين والعالم العربي في آخر نبضة من قلبك..
السلام عليك يا من لبس الإيمان الذي لا مثيل له. لقد كانت أقدامًا إضافية لكم، وسيوفًا مسلولة بين أيديكم، وجنودًا لا يراها إلا أصحاب المبادئ، وزمنًا مضافًا إلى حسابات الزمن المعلوم. لذلك رميتم الحذر للريح وغطاء رأسكم للنيران، وأحببتم المخاطرة، لأنكم تعلمون جيداً أن التغيير الجذري لن ينتهي دائماً بالفرح، بل شعبكم الذي تولد أجياله جيلاً بعد جيل، في بوتقة الاضطهاد والقتل والدمار والتهجير والتشرد، يستحقها من يسعى لاستعادة عالمه المسروق من الأعداء.
لقد كانت فلسطين رومانسيتك وجذر كفاحك يا سيدي. وهذا اكتشاف لا يعرفه إلا المجاهدون. إنها قوة لا تعترف بسياقات محددة. إنه اندفاع مطلوب وتجاوز محسوب، والدخول في مواقف «يتجنبها» الخائف. فخالفوك واتهموك وحاربوك وحاصروك وجعلوك غير مرغوب فيك… أرادوا منك أن تمشي في الزوايا وعلى جوانب الطرق، ويعلموك ما يجب أن تقوله، حتى تكون أعط بقدر ما تأخذ ولا تزيد، لكنك لا تحب ظلال الرمادي، ولا أنصاف الحلول، وسلاحك ليس الكلمات. بل هي أفعال لأنك تؤمن أن الأفعال أعلى صوتا من كل الكلمات، وهنا يقول نابليون، إذا أردت الخير فافعله بنفسك. سيظل التاريخ يُحكى على أنه قصة الرجال العظماء.
في أرض فلسطين الحبيبة، يأتي شهركم البطولي ملطخاً بالدماء الزكية الزكية. فاحتضنيه وضميه إليك بشدة ثم دعيه ينام. ولتكن هذه الليلة أول ليلة في الكتاب الجديد الذي ستقرأه الأجيال العربية المتشوقة لصحوة جديدة من خالد بن الوليد، وسعد بن أبي وقاص، وشرحبيل… والسلام عليكم. وقال عمر بن الخطاب (لا أعدل من حارب رسول الله ومن قاتل معه)… والسلام على السنوار الذي قاد قتال الأمة ضد ألد أعدائها منذ عقود، واجتمعت فيه أرواح أشجعها وفرسانها. لقد كسر القاعدة وأثار الركود الذي عم الأمة، فأصبح دليلاً يهتدي به، وطريقاً واضحاً لمن يصنع الحياة الحرة الكريمة، الذي لا يشعر بالوحدة وهو يسير فيها رغم النقص. ومن تبعه كما يقول علي بن أبي طالب… والسلام على أمهاتنا اللاتي كن يقلن: “لا غنى في الحياة مثل غنى الشهادة”.
القدس العربية
Discussion about this post