شعبان أحمد الدلو (19 عاما) كان طالبا متفوقا يدرس هندسة الكمبيوتر في جامعة الأزهر بغزة وكان يحلم بإكمال دراسته في ألمانيا. التحق بدروس مكثفة في اللغة الألمانية واجتاز امتحان التوفل باللغة الإنجليزية. وشعبان، مثل مئات الآلاف من سكان غزة العام الماضي، نزح مع عائلته خمس مرات.
وكان ملجأهم الأخير في محيط مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح وسط قطاع غزة. بدأ ببيع الفلافل لإعالة والديه وإخوته، لكنه ظل يحلم باستكمال دراسته وتقديم طلبات الالتحاق بالجامعات في قطر وإيرلندا والمملكة المتحدة من خيمته. وفي 6 تشرين الأول/أكتوبر، نجا من غارة على مسجد الشهداء الأقصى أدت إلى مقتل 26 شخصاً وجرح وتشويه عدد أكبر. أصيب شعبان في الرأس واحتاج إلى عملية و20 غرزة.
لكن إسرائيل عثرت عليه يوم الأحد 13 أكتوبر/تشرين الأول، حيث كان جسده الهش ممدداً، وقد أنهكته الإصابة والجوع، وأحرقته حياً مع والدته علاء أمام العالم. تمكن والده من إنقاذ إخوته الصغار الذين أصيبوا مثله بحروق، لكنه شاهد ابنه الأكبر يموت أمام عينيه. محمد، الابن الذي نجا من المحرقة، تعرف على جثة والدته من خلال سوار كان على معصمها لأن النار محتت ملامحها.
وسيظهر شعبان حيا، ثم احترق في نار الإبادة الجماعية، في صورة رفعها النائب اليساري الإسباني، أيون بيلارا، من حزب بوديموس في البرلمان الإسباني. وسأل بيلارا الجمهور: ما الفرق يا ترى بين ما تفعله إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة وغرف الغاز النازية؟ ولم تنتظر جوابا، بل أكدت: لا فرق. ثم طالبت الحكومة “اليسارية” بتنفيذ حظر تصدير الأسلحة إلى إسرائيل.
وفي إيطاليا، أعلن رئيس الوزراء اليميني الفاشي جيورجيا ميلوني وقف صادرات الأسلحة إلى إسرائيل. جاء ذلك بعد ضغوط وانتقادات من جوزيبي كونتي زعيم حركة الخمس نجوم، لكن السبب الرئيسي لم يكن الإبادة الجماعية المستمرة ضد الفلسطينيين، بل هجوم إسرائيل على قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان، المعروفة باسم اليونيفيل، والتي انضمت إليها إيطاليا. ويساهم بأكثر من ألف جندي.
أما البرلمان الألماني، البوندستاغ، في برلين، المدينة التي خطط فيها النازيون لمحرقة القرن الماضي، فقد وقفت أمامه وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك في الذكرى الأولى لـ 7 أكتوبر وألقت خطابا طويلا كررت فيه العبارة المبتذلة. وهو الخطاب الذي يردده الساسة في الديمقراطيات الغربية في هذا السياق. .
لكن اللافت أنها “حللت” قتل المدنيين، مؤكدة أن حق إسرائيل في الدفاع عن النفس “لا يعني مهاجمة الإرهابيين، بل تدميرهم… عندما يختبئ إرهابيو حماس خلف الناس وخلف المدارس، فإننا نأتي” إلى الأمور الصعبة، ولكننا لن نخجل، حيث تفقد الأماكن المدنية وضعها المحمي. لأن الإرهابيين ينتهكونها”. وشددت على الارتباط الوثيق بين أمن إسرائيل والوجود الألماني. جدير بالذكر أن بيربوك هذه هي حفيدة فالديمير بيربوك (1913-2016)، الذي كشفت صحيفة “بيلد” الألمانية في فبراير/شباط من العام الجاري أنه نازي وقح يؤمن بمشروع هتلر وأهدافه. حصل على وسام الصليب النازي عام 1944 تقديراً لتفانيه وخدماته.
عندما انتشر المشهد المروع لشعبان الدلو وهو يحترق في نيران الإبادة، استذكر البعض مشهدا من حوار قديم مع الفيلسوف الإسرائيلي يشعياهو ليبوفيتش (1903-1994) الذي يعتبر من أكثر الفلاسفة جرأة. والمفكرين اليهود المثيرين للجدل في القرن الماضي. حتى أن أشعيا برلين أطلق عليه لقب “ضمير إسرائيل”. ولد ليبوفيتش في ريجا، لاتفيا، ودرس في ألمانيا، وحصل على الدكتوراه في الفلسفة في برلين.
وهاجر إلى فلسطين عام 1935 وعمل أستاذاً في الجامعة العبرية في القدس. وتنوعت اهتماماته وكتاباته بين تاريخ العلم والفلسفة والفكر اليهودي. كان صهيونياً، لكنه أثار حفيظة الكثيرين في إسرائيل بانتقاداته للأحزاب الدينية التي وصفها بـ”سيدة الدولة”، فضلاً عن انتقاده لسياسات الدولة بعد عام 1967 عندما طالب بالانسحاب من الأراضي المحتلة. الضفة الغربية وغزة، ودعا إلى رفض الخدمة العسكرية خلال حرب لبنان عام 1982.
ورأى أن الاعتقاد بأن بلداً أو مكاناً مقدساً في حد ذاته هو بلا شك فكرة وثنية، وبالتالي فإن معارضة حل الدولتين على أساس أن الأرض مقدسة لليهود باطلة بالنسبة له. وفي عام 1993، تم الإعلان عن فوزه بجائزة إسرائيل، وهي أعلى جائزة مدنية. ألقى خطابا أمام مجلس السلام الإسرائيلي الفلسطيني، وشبه الوحدات الخاصة في الجيش الإسرائيلي بقوات الأمن الخاصة النازية. وتم تقديم طلبات لاحقة إلى المحكمة العليا لحجب الجائزة، وهدد إسحق رابين، رئيس الوزراء في ذلك الوقت، بمقاطعة حفل توزيع الجوائز. لكن ليبوفيتش رفض ذلك.
في المقابلة التلفزيونية قبل أن يتسلم جائزة الدولة، سأل أحد المحاورين ليبوفيتش عن قوله إن إسرائيل دولة يهودية نازية وليست ديمقراطية. ويوضح أنه كان يقصد وجود عقلية يهودية نازية منتشرة في أوساط معينة في إسرائيل. ويطلب منه المحاور التراجع عن هذا الرأي من أجل «تلطيف الأجواء» أثناء تسلمه الجائزة، فيجيب ليبوفيتش «العقلية اليهودية النازية حية ومزدهرة»، ثم يتقدم محاور آخر وهو تومي لابيد (1931 – 1931). 2008)، والد يائير لابيد، زعيم المعارضة الحالي في إسرائيل. ) وسأل ليبوفيتش: “إذن هناك يهود يحرقون ملايين العرب من أجل المتعة؟
هل هناك جماعات تنوي إنشاء معسكرات اعتقال لحرق العرب؟ يجيب ليبوفيتش: «أعلم أن دولة إسرائيل تحتجز آلاف العرب في معسكرات الاعتقال»، ويصر لبيد ويكرر سؤاله بشكل استفزازي: «وهل ستحرقهم؟». رد ليبوفيتش بغضب: “هذه نبوتك!” هذه هي نبوءتك للمستقبل! وقد أشار ليبوفيتز مراراً وتكراراً إلى عبارة مفضلة كان قد اقتبسها من الكاتب النمساوي فرانز جيرلبارزر، الذي شهد صعود القوميات في القرن التاسع عشر، وكان ليبوفيتز يتذكرها ليصف مسار إسرائيل ونتائجه: “من الإنسانية إلى القومية إلى الوحشية”.
الفرق بين المحرقة النازية في القرن الماضي والإبادة الجماعية الصهيونية الآن هو أن النازيين كانوا حريصين على إخفاءها عن العالم، بينما كان الصهاينة يتباهون بوحشيتهم.
القدس العربية
Discussion about this post