تشهد تونس، الأحد المقبل، أغرب انتخابات رئاسية في تاريخها الحديث. والغريب في الأمر أن هذه الانتخابات ليست «مطبوخة» ومنظمة بشكل جيد على طريقة العقود القديمة في عهدي الراحل الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، كما أنها ليست ديمقراطية شفافة كما عاشتها تونس بعد ثورتها عام 2011. وفق أعلى شروط النزاهة وبرقابة محلية ودولية واسعة النطاق.
إنها انتخابات هجينة ومربكة. وقيس سعيد، الذي وصل إلى قمة الرئاسة في انتخابات 2019 بفضل سلم ديمقراطي واضح، قرر كسر هذا السلم حتى لا يصعده أحد من بعده، مستهزئا بكل قواعد القانون الواضحة.
هذا الدوس غير المسبوق على القانون، والذي وصل في آخر حلقاته إلى حد تغيير قانون الانتخابات قبل أيام قليلة من الانتخابات الرئاسية بسحب سلطة النظر في نزاهة الانتخابات وإجراءاتها من المحكمة الإدارية وإحالتها إلى المحكمة الإدارية. القضاء القضائي، إذ أنصفت العقوبة بعد هذه المحكمة ثلاثة مرشحين تم استبعادهم ظلما، إضافة إلى حبس العياشي الزمال أحد المرشحين الثلاثة الذين تم قبول ترشحهم… كل هذا دفع مؤخرا إلى ظهور شخصية بارزة مجموعة من أساتذة القانون والعلوم السياسية بالجامعة التونسية لإصدار بيان يمثل صفعة على وجه كل ما حدث من سخافة وتلاعب.
ويقول هؤلاء الأساتذة إنه انطلاقا من التزامهم بـ”رسالتنا التعليمية النبيلة في إعلاء سيادة القانون، وانسجاما مع المبادئ التي علمناها منذ سنوات وعقود في الجامعة التونسية لأجيال من الطلاب، ومن منطلق الصدق والنزاهة العلمية والأكاديمية”، معتبرين أن “مشروع مراجعة قانون الانتخابات يمس مبدأ الأمن القانوني واستقرار الأوضاع”. والمراكز القانونية والثقة المشروعة في التشريعات، وخاصة مبدأ الاستبصار، إذ لا يجوز تغيير قواعد الرهان الانتخابي في العام الانتخابي وفق ما تقتضيه المعايير الدولية لنزاهة الانتخابات”.
ورأوا أن تعديل قانون الانتخابات بشكل مرتجل وصارخ من خلال برلمان مطيع ومتواطئ هو “انتهاك واضح للمبادئ التي تقوم عليها دولة القانون”، معتبرين أن “التسرع في إقرار هذا القانون من قبل رئيس الجمهورية”. “رئيس الجمهورية يتعارض مع دوره كضامن لسيادة الدستور، خاصة في ظل غياب محكمة دستورية”، وأن “انخراطه كمرشح للانتخابات الرئاسية في عملية تعديل القانون الانتخابي، يؤثر على نزاهة العملية الانتخابية.”
بادرة هؤلاء الأساتذة في مواجهة «الرباعي» الذي يفترض أنه ينتمي إلى الأسرة القانونية (رئيس الدولة خبير في القانون الدستوري، ووزير العدل ورئيس لجنة الانتخابات قاضيان، و (رئيس مجلس النواب محامٍ) له قيمة كبيرة، بل وتاريخية، خاصة أنه ليس الأول، إذ سبق لعدد منهم أن أصدروا بيانات للتعبير عن معارضتهم لهذا السجل الفاضح للقانون بشكل لم يسبق له مثيل، فقط من أجل ضمان بقاء سعيد في منصبه بأي ثمن.
أما الحملة الانتخابية الرئاسية فكانت فاترة للغاية، حيث مرت دون لقاءات جماهيرية أو مناظرات بين المرشحين الثلاثة. العياشي الزمل في السجن ويتعرض لملاحقات قضائية غريبة تعكس رغبة واضحة في إيذاء الرجل، فيما يبدو زهير المغزاوي محدود الشعبية وسمعته في دعم سعيد بقوة قبل تغير جلده المفاجئ قوضت مصداقيته. أما حملة سعيّد، فاتسمت بأساليب عرفها التونسيون منذ فترة طويلة في عصور سابقة قبل الثورة.
الجمهور التونسي متردد حاليا بين موقفين، أحدهما يدعو إلى مقاطعة هذه الانتخابات والآخر يدعو إلى المشاركة
ويتأرجح الرأي العام التونسي حاليا بين موقفين، أحدهما يدعو إلى مقاطعة هذه الانتخابات والآخر يدعو إلى المشاركة الحاشدة والتصويت لزمل للتخلص سلميا من حكم سعيد.. ولكل من هذين الموقفين منطقه ومحاذيره.
قرار المقاطعة ينطلق من أن كل ما يحدث حاليا هو استهزاء حقيقي مبني على باطل في أساسه (انقلاب سعيد على الدستور 2021)، بحيث أنه من المعيب المشاركة فيه لإضفاء أي شرعية عليه. وهذا الخيار، رغم صلاحيته من حيث المبدأ، سيسمح في نهاية المطاف لسعيد بالفوز في الجولة الأولى، مهما كانت نسبة المشاركة منخفضة، إذ في هذه الحالة سيذهب أنصاره فقط إلى التصويت، علما أنه في عهد سعيد كان قد وافق سابقا دستور جديد وبرلمان بنسبة تعتبر قياسية على المستوى الدولي في ضعفها.
أما بالنسبة لقرار النزول بكثافة يوم الاقتراع والتصويت لصالح الزمل، فإن المطالبين به، ومن بينهم حتى بعض المعتقلين السياسيين المسجونين حالياً، يحاولون إقناع الناس بأنه الخيار الأكثر أماناً والقادر حقاً على الإطاحة. سعيد. وحتى لو وصلت الأمور إلى حد إلغاء أصوات الزملاء بعد الاقتراع، كما تستطيع لجنة الانتخابات أن تفعل، فإن ذلك من شأنه أن يزيد من فضح هذه الانتخابات، ويحرم سعيد من فوز سهل. لكن معارضي هذا الخيار يرون أنه من غير المناسب اختيار شخص لا يعرف عنه الكثير، رغم وعوده. ويبدو أنها مطمئنة إلى استعادة المسار الديمقراطي.
ومهما يكن من أمر، فالأمر المؤكد اليوم هو أن سعيد يتقدم إلى هذه الانتخابات بشكل هش للغاية، مما يجعل فوزه التعسفي، في حال حدوثه، رغم سيادة القانون ومعظم القوى السياسية والاجتماعية والفكرية، ثقيلا. التحدي الذي لا أحد يعرف كيف يمكنه مواجهته بعد أن خسر كل الرصيد الذي اكتسبه تقريبًا. بالنسبة للرئاسة قبل خمس سنوات، كان مليئا بالآمال التي سرعان ما تبددت بطريقة درامية ومخيفة ومضحكة في الوقت نفسه.
القدس العربية