كتبت كثيرا عن أزمة التمثيل السني في العراق ابتداء من عام 2003 وعن التحولات التي صاحبت هذا التمثيل بين عامي 2003 و2014، وهو العام الذي أنهى عمليا محاولات إيجاد تمثيل حقيقي يعبر عن مصالح الجمهور السني في العراق بسبب الآليات التي اعتمدها آنذاك الفاعل السياسي الشيعي من أجل خلق تمثيل سني مستأنس، وفق معادلة «التدجين مقابل الفساد» التي اعتمدها رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي في ولايته الثانية (2010-2012)!
وفي انتخابات مجالس المحافظات عام 2013، تمكن السياسيون الذين أنشأهم المالكي من تحقيق نتائج غير متوقعة في المحافظات ذات الأغلبية السنية. «سنة المالكي»، وهو الوصف الذي أطلقناه عليهم يومها، نجحوا في تحقيق هذه النتائج في سياق الاحتجاجات الواسعة التي شهدتها هذه المحافظات ضد سياساته. تمييز وطائفي!
ولم يكن هذا النجاح مرتبطا بعمليات تزوير ممنهجة واسعة النطاق شاركت لجنة الانتخابات نفسها في تنظيمها، بل كان مرتبطا أيضا بعوامل أخرى، بما في ذلك طبيعة السلوك التصويتي الزبائني للجمهور السني (سياسة شراء الأصوات من خلال استخدام المال السياسي). والتوظيف واستغلال العلاقة مع الهيئة في تقديم الخدمات).
وقد أغرى هذا النجاح المالكي باستخدام نفس الاستراتيجية في انتخابات مجلس النواب عام 2014، من خلال تحالفات أوسع هذه المرة. وهي تحالفات عقدها قبل الانتخابات مع ثلاث قوى سنية رئيسية في ذلك الوقت: الحزب الإسلامي، وحركة الحل، وجبهة الحوار الوطني، لضمان ولاية ثالثة كانت تواجه الرفض من الحكومة. وكانت القوى السياسية الشيعية ستقترب من تحقيق ذلك لولا قرار المرجع الأعلى السيد علي السيستاني الذي دمر هذا الحلم!
فالفاعل السياسي الشيعي يتوهم أنه حسم مسألة الحكم في العراق لصالحه نهائيا
وبعد خروج المالكي من السلطة، استمرت الجهات السياسية الشيعية من بعده في انتهاج السياسة نفسها، وظهر ذلك واضحا في انتخابات مجلس النواب عامي 2018 و2021، خاصة وأن علاقات القوة التي نشأت بعد هزيمة تنظيم داعش، الموقف الأمريكي السلبي من استفتاء استقلال إقليم كردستان، جعل الفاعل السياسي الشيعي يتوهم أنه حسم مسألة الحكم في العراق نهائيا لصالحه، وأنه يستطيع إعادة ترتيب أوراقه وفقا للسلطة الجديدة علاقات بعيدة كل البعد عن المبادئ التي تشكل النظام السياسي على أساسها بعد عام 2003 بالوجود الأميركي!
لكن هذه الاستراتيجية تعرضت أكثر من مرة لتحديات، كان أبرزها موقف رئيس مجلس النواب سليم الجبوري، في آذار/مارس 2016، عندما «تجرأ» الرجل على كتابة مقال في صحيفة «الجديدة» وحملت صحيفة نيويورك تايمز عنوان: “أبعدوا الميليشيات عن الموصل”، ووصف فيه قوات الحشد الشعبي بـ”الميليشيات الطائفية”. وقامت بعمليات قتل انتقامية وتطهير عرقي! مما اضطر الفاعل السياسي الشيعي آنذاك إلى استخدام سياسة العصا، بالتعاون مع بعض النواب السنة، لإطاحته من منصبه كرئيس لمجلس النواب في 14 نيسان 2016، قبل أن يذعن ويستسلم للسلطة. لظروفه، وسمحت له المحكمة الاتحادية بعد ذلك بالعودة مرة أخرى إلى منصبه بقرار مسيس بشكل سافر. وليوافق شخصياً على إقرار قانون تشريع هذه الميليشيات “الطائفية” على حد وصفه!
وتكرر الأمر مع رئيس مجلس النواب اللاحق محمد الحلبوسي، الذي كان من صنائع القوى الشيعية المؤثرة، ويدعمه قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس بشكل خاص. وعندما وصل إلى رئاسة مجلس النواب عام 2018، تصور الحلبوسي أنه يستطيع التمرد على مبدعيه مستغلا الانقسام الشيعي. الشيعة بين التيار الصدري من جهة، والإطار التنسيقي من جهة أخرى، والخروج عن المظلة التي وفرها له حلفاء إيران في العراق، حيث تحالف مع الثلاثي الصدري والحزب الديمقراطي الكردستاني، ومصيره وكان هذا التمرد بمثابة إطاحته من رئاسة مجلس النواب، ومن مجلس النواب نفسه، بقرار مسيس. ثانيا من المحكمة الاتحادية!
ويبدو أن سياسة العصا تؤتي ثمارها دائماً في العراق، خاصة وأن ريع المناصب، والاستثمار اللامحدود في المال العام، والشبكات الزبائنية التي يتم بناؤها عبر أدوات السلطة، تتبخر في حال ترك المنصب/ قوة. ولتجنب هذا «التمرد»، لجأ الفاعل السياسي الشيعي إلى سياسة جديدة اعتمدها تتجاوز عملية تدجين السياسي السني، إلى عرابين وأوصياء على الفاعلين السياسيين الشيعة لكل سياسي سني انتهازي يطمح إلى فرصة أن يصبح زعيماً سنياً، ويتمتع بالإيجارات والاستثمارات والقدرات اللازمة لخلق جمهور زبائني. مع ضمان عدم تمكن أي «زعيم مصنع» سني من الحصول على عدد كبير من المقاعد النيابية التي قد توهمه بإمكانية التمرد على صناعه مستقبلا!
هذه الاستراتيجية وحدها تفسر الهجوم الذي بدأه الحلبوسي على إقليم كردستان، والذي أعقبته هجمات أخرى من أتباعه، أو من جيوش إلكترونية تابعة له، أو من أتباع آخرين غير تابعين له!
وغرّد الحلبوسي من دون مقدمات بأنه يرفض “تسليح القوات المحلية التي يقتصر واجبها الدستوري على حفظ الأمن الداخلي ضمن حدود مسؤوليتها بالمدفعية الثقيلة المتطورة”، وأن يكون هذا السلاح “حكرا على الجيش العراقي فقط”.
وكان من الممكن قبول هذه التغريدة لو اعترض الرجل على تسليح قوات الشرطة الاتحادية المرتبطة عضويا بمنظمة بدر بالمدفعية الثقيلة رغم أن واجبها الدستوري يقتصر على الحفاظ على الأمن الداخلي! كان من الممكن قبول هذه التغريدة لو أن الرجل اعترض على تسليح الدولة/ الميليشيات العقائدية التي لا تخضع لأوامر الدولة العراقية، بل تشكل دولة موازية تماما، بمختلف أنواع الأسلحة، من المدرعات والمدفعية والطائرات بدون طيار. !
لكنه لم يتحدث عن كل ذلك، رغم أنه كان لا يزال رئيساً لمجلس النواب آنذاك، وبالتالي لا يمكن فهم هذه التغريدة إلا في سياق الاستراتيجية الجديدة التي اعتمدها الفاعل السياسي الشيعي. ومن الواضح أن الحلبوسي قبل دور الأداة في يد عرابه الجديد قيس الخزعلي زعيم ميليشيا عصائب أهل الحق في صراعه المفتوح ضد الحزب الديمقراطي الكردستاني، وأن هذه التغريدة وهو بمثابة «صك براءة» عن تمرده السابق، وإعلان عن صك طاعة جديد، تمهيداً لمنحه مكاناً في انتخابات المجلس. النواب العام المقبل!
إن علاقات القوة الوهمية وحدها لا تستطيع أن تحدد مستقبل العراق، ولا تستطيع هذه الأوهام أن تلغي الحقائق على الأرض. لقد فشل السنة الذين حكموا العراق 82 عاماً في إنتاج نظام حكم يؤمن بالتعددية ويلتزم بالقانون والمؤسسات، وسقطوا وأسقطت الدولة معهم بسبب نفس الأوهام في العام 2003، لكن أوهام جديدة لم تتعلم الدرس!
القدس العربية