إن نتائج هذه الحرب سوف تحدد مصير الشرق الأوسط على الأقل خلال المائة عام القادمة. إن إسرائيل تريد المنطقة لنفسها، ومقعداً في مجلس إدارة العالم. ويعتقد نتنياهو أن النظام العالمي الحالي معيب إلى حد كبير، مما يسمح لإسرائيل بارتكاب كل الجرائم التي تريدها والإفلات منها. إن حكومته لا تحترم القانون الدولي، ولا تطالب بتطبيقه ما لم يكن متسقاً مع العمل الإسرائيلي.
إن مؤسسات النظام الدولي لا تُحترم إلا إذا خضعت لمصالحه ورفعت مطالبه عنواناً لقراراتها، وكلما أفلت نتنياهو من العقاب داخلياً وخارجياً، زاد دعم اليمين الصهيوني الديني المتطرف المتعطش لسفك الدماء وأنصاره في كل أنحاء العالم.
كما يعتقد نتنياهو وحكومته أن القوة الغاشمة هي المفتاح لتحقيق ما تريده إسرائيل، وأنها تجبر المعارضين والحلفاء على الخضوع للسياسة العدوانية الوحشية التي تمارسها ضد الشعب الفلسطيني. ويعتقد نتنياهو وزعماء وجمهور اليمين الديني المتطرف الصهيوني أن التطبيع فرض على عدد من الدول العربية بالقوة، وأن استكمال مشروع الهيمنة على الشرق الأوسط لن يكون إلا بالقوة.
قوة إسرائيل فشلت في تحقيق أهداف حرب غزة
ورغم أن القوة الإسرائيلية لم تنجح في تحقيق أهداف حرب غزة، إلا أن نتنياهو بدأ الفصل الثاني من حرب مصير الشرق الأوسط، بإعلانه نقل الجهد العسكري الرئيسي من غزة إلى جنوب لبنان، وتكرار كل الأعمال الوحشية والهمجية التي ارتكبت في غزة.
أهداف الحرب ضد حزب الله
إن نتنياهو سوف يزعم أن حربه في لبنان هي عمل دفاعي عن النفس. إنه كاذب ومعتد شرس. إن هذه الحرب ليست سوى الفصل الثاني، وليس الأخير، في حربه الشريرة لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بالقوة.
وكما كانت غزة الفصل الأول الذي لم يُغلق بعد، فإن لبنان، وليس جنوبه فقط، لن يكون الفصل الأخير. وبعد ذلك سيكون هناك الفصل الثالث، ثم الرابع، وربما الخامس أيضاً، بحيث إذا اشتعلت نيران الحرب في العالم أجمع، يظن نتنياهو أنه انتصر، ولكنه لن يرى النصر أبداً، بل سيجلب على نفسه بهذه الحرب الوحشية كراهية العالم.
ثم يبكي ويدعي أنه ضحية. قال نتنياهو عن حربه في لبنان: “أهدافنا واضحة، وأفعالنا تتحدث عن نفسها”. ورغم أنه لم يحدد تلك الأهداف بشكل قاطع، إلا أنه يمكننا أن نستنتجها من تصريحاته على النحو التالي:
الهدف الأول هو تغيير ميزان القوى على جانبي الحدود بين إسرائيل ولبنان، والتي ظلت حدوداً غير محددة وغير متفق عليها منذ عام 1948 وحتى الآن.
وتتضمن عملية تغيير الميزان تكثيف وجود القوة العسكرية الإسرائيلية، وإزالة أو تقليص وجود حزب الله، بحيث تصبح المنطقة الممتدة من شمال إسرائيل إلى جنوب نهر الليطاني خالية من التهديد وخاضعة لنفوذ القوات الإسرائيلية.
أي أن مفهوم نتنياهو لتغيير ميزان القوى يتضمن ثلاثة مكونات: زيادة وجود القوات الإسرائيلية، وإزالة وجود قوات حزب الله، وإقامة منطقة عازلة بينهما إلى الجنوب من الحاجز الطبيعي وهو نهر الليطاني.
الهدف الثاني هو تمكين سكان إسرائيل الذين غادروا مستوطناتهم منذ أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي من العودة إلى ديارهم. وهذا الهدف المعلن ضمن أهداف الحرب الإسرائيلية على لبنان يستجيب لحملة التعبئة التي يقوم بها اليمين الديني الصهيوني، بهدف تغذية مشاعر العداء، وإشعال الرغبة في المزيد من سفك الدماء ضد شعوب المنطقة، وتوسيع نطاق القاعدة الانتخابية لليمين، من خلال استعادة الثقة المفقودة في السياسات التي فشلت في تحقيق أهداف الحرب في غزة.
الهدف الثالث هو مواصلة العمل على توسيع نطاق الحرب إقليمياً وفتح جبهات جديدة، مما سيكون بمثابة استفزاز لإيران للتدخل المباشر في الحرب.
وفي هذه المعادلة قد تتعرض المملكة الأردنية الهاشمية، بكل مكوناتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لخطر الوقوع بين نارين. ورغم أن إسرائيل تندفع نحو مواجهة عسكرية مباشرة مع إيران، فإنها لا تريد أن يحدث ذلك قبل أن تنشئ تحالفاً إقليمياً يضمن دفع الآخرين ثمن حرب إقليمية شاملة.
إيران وقوى المقاومة تلعبان لعبة طويلة المدى في الرد على الاعتداءات الإسرائيلية
نحن نعلم في المنطقة، كما يعلم من يعلم في العالم، أن إيران وقوى المقاومة تلعب لعبة طويلة الأمد في الرد على العدوان الإسرائيلي، تستهدف الاستنزاف المطول حتى إضعافها. ومن غير المتوقع في ظل الظروف الحالية أن يكسر محور المقاومة قواعد استراتيجية حرب الاستنزاف الطويلة الأمد، لكن هذا يجب أن يتحقق أيضاً بالتوازي مع الصمود ووجود قوة رد وتطوير عناصر القوة الهجومية.
نقل الحرب إلى داخل إسرائيل
المرحلة الأولى من الحرب دارت بشكل رئيسي على أرض غزة ومجالها الجوي ومياهها، واستخدم الطرفان، الاحتلال والمقاومة، أسلحة تقليدية لم يسبق استخدامها من قبل.
ومنذ البداية، اعتمدت إسرائيل استراتيجية قصيرة المدى، على أمل تحقيق نصر سريع، كما فعلت في الحروب النظامية مع جيوش الحكومات العربية.
ولكن بعد فشلها في تحقيق أهدافها (استعادة الأسرى، والقضاء على حماس، وإعادة بناء غزة خالية من أي تهديد مستقبلي)، استسلمت إسرائيل لحقيقة أن الحرب كانت مستمرة، واستغلت ضعف القوة العسكرية لحماس لإعادة توجيه الجهد العسكري الرئيسي، ونقل أجزاء كبيرة من القوات إلى جبهة المواجهة في جنوب لبنان.
ولكن زيادة قدرة المقاومة على تنسيق عملياتها في غزة والضفة الغربية وداخل إسرائيل من خلال غرفة عمليات عسكرية مشتركة قد يؤدي إلى إرباك الجهد العسكري الرئيسي ويفرض خيارات صعبة على القيادة العسكرية الإسرائيلية، سواء في ما يتصل بتوزيع قوات الاحتياط أو توزيع إمدادات الأسلحة.
ونحن نعتقد أن السمات الغالبة على المرحلة الثانية من الحرب تتمثل في ثلاث سمات رئيسية، السمة الأولى هي أن إسرائيل نفسها سوف تصبح ساحة رئيسية للحرب.
صحيح أنها تعرضت خلال الأشهر الحادي عشر الماضية لبعض الضربات الداخلية، بواسطة الصواريخ والطائرات بدون طيار والعمليات الانتحارية، إلا أنها لم تشكل سمة رئيسية أو مهيمنة على الحرب، بل بقيت مجرد عمليات هامشية متقطعة.
وتشير العمليات الأخيرة منذ الهجوم الصاروخي اليمني منتصف الشهر الجاري حتى الآن إلى أن المنطقة الممتدة من وسط إسرائيل إلى جنوب لبنان سوف تكون ساحة حرب رئيسية، أو بالأحرى الساحة الرئيسية، بعد أن تحولت العمليات في غزة إلى نمط حرب المدن الطويلة الأمد.
كما أن استمرار الضربات اليمنية على وسط وجنوب إسرائيل، والاستخدام المتزايد للصواريخ والطائرات العراقية بدون طيار في المواجهة، قد يساعد أيضاً على زيادة ارتباك القوات الإسرائيلية.
الميزة الثانية هي أن المرحلة الثانية من الحرب ستشهد استخدام أسلحة جديدة لم تستخدم من قبل، سواء من قبل إسرائيل أو من قبل المقاومة.
لقد رأينا بالفعل هجمات إسرائيل لتفجير أجهزة الاتصالات الشخصية والعملياتية لقوات المقاومة في لبنان، وهجوم اليمن بصاروخ فرط صوتي على إسرائيل.
ومن المرجح أن يكشف الجانبان عن قدرات جديدة خلال المرحلة الثانية من الحرب، على الرغم من الخسائر المؤلمة التي مني بها حزب الله، والتي اعترفت قيادته بها، وأهمها خسارة عدد كبير من قادته.
الميزة الثالثة هي أن إسرائيل التي تعمل على توسيع نطاق الحرب وتحقيق أهدافها في فترة زمنية قصيرة، ستجد نفسها مضطرة إلى قبول فكرة التوصل إلى تسوية سياسية، لتجنب حرب طويلة الأمد في التعامل عسكرياً مع حزب الله.
ولن تغزو جنوب لبنان عسكرياً إلا إذا كان ذلك الخيار الأخير، أما المقاومة فستعمل على الحفاظ على قدرتها على الرد لأطول فترة ممكنة، وإلحاق أكبر قدر ممكن من الخسائر بإسرائيل، لأطول فترة ممكنة، بحيث تفقد إسرائيل قدرتها على تحقيق أهداف الحرب، ويشعر سكان شمال ووسط إسرائيل بأنهم أقل أمناً.
تمكنت المقاومة خلال الأسبوع الجاري من توجيه ضربات معاكسة ضد إسرائيل بنجاح، رغم الخسائر التي تكبدتها، كما تمكنت من تهديد كافة المناطق شمال حيفا وعكا والجليل، بما في ذلك تعطيل العمل في المستشفيات وإغلاق المدارس ومنع التجمعات، فضلاً عن الخسائر المادية والبشرية التي ألحقتها بها.
وتؤدي هذه النتائج التي حققتها المقاومة إلى إحباط مباشر لقدرة قوات الاحتلال على خلق بيئة أمنية تسمح لسكان الشمال بالعودة إلى منازلهم، كما تضع القيادة العسكرية للجبهة الداخلية تحت ضغوط شديدة لأول مرة منذ بداية الحرب على غزة.
إن هذه الميزات الثلاث: نقل الحرب إلى الداخل الإسرائيلي، واستخدام أسلحة وتكتيكات جديدة، وتوسيع نطاق حرب الاستنزاف الطويلة الأمد، من شأنها أن تساعد في الحفاظ على توازن القوى الحالي الذي وضع الداخل الإسرائيلي في مرمى نيران المقاومة، بعد أن قوض قدرة إسرائيل على الردع، ربما لسنوات قادمة.
القدس العربي