وفي اعتقادي أنه ليس من المفيد أن نحاول التقليل من شأن الاختراق الاستخباراتي الإسرائيلي الذي نتج عن التفجيرين الأخيرين، اللذين أسفرا عن مقتل نحو سبعة وثلاثين شخصاً حتى وقت كتابة هذا المقال، ناهيك عن حقيقة أن هذا العدد من المرجح أن يزداد بسبب طبيعة الإصابات.
وتبع ذلك غارات جوية أعلن الكيان المحتل أنها دمرت نحو مئة منصة لإطلاق الصواريخ تابعة لحزب الله في جنوب لبنان، ورغم أننا لا نعتمد كلياً على رواية العدو، إلا أن تسلسل الأحداث وطبيعة الأمور تدفعنا إلى الاعتقاد بأن بعض الأضرار لحقت ببعض هذه المنصات، بغض النظر عن حجمها.
وأعترف أن هذا التطور كان مفاجئاً بقدر ما كان مزعجاً ومؤلماً، ولا أنكر أن قدراً من الإحباط تسلل إلى نفسي، والشيء الوحيد الذي خفف من تلك المشاعر هو اعتراف السيد حسن نصر الله بضخامة هذه النكسة، مما يثبت مرة أخرى جديته وتنظيمه، ووعده بالانتقام، والذي أعتقد، بالإضافة إلى التحليل الدقيق للحدث، أنه قادر على وضعه في سياق موضوعي يسمح بتقييم جيد لوزنه.
والجديد هنا هو التوسع في استخدام هذه التكنولوجيا، بحيث أصبحت تتجاوز الاغتيال أو الضربة شبه الجراحية.
هناك عاملان مهمان هنا، الأول هو طبيعة هذه العملية، إذ يجب أن نتذكر أنها ليست غير مسبوقة من حيث نوعها، فقد سبقتها عمليات مماثلة مثل تفخيخ هاتف المهندس يحيى عياش، واغتيال العلماء الإيرانيين، وأخيراً اغتيال الشهيد إسماعيل هنية. والجديد هنا هو التوسع في استخدام هذه التقنية، بحيث تتجاوز الاغتيال أو الضربة شبه الجراحية، لتأخذ طابع عملية عسكرية واسعة لا تفرق بين العسكري والمدني، وتساوي في ذلك أي هجوم صاروخي عشوائي على المدنيين، وبالتالي تشكل إرهاب دولة بامتياز.
العامل الثاني هو حسم مرحلة الترقب التي عشناها منذ السابع من تشرين الأول، والجواب على سؤال «أن نكون أو لا نكون» حول ما إذا كانت الحرب ستتوسع لتشمل لبنان أم لا؛ من الممكن أن تكون كل المؤشرات قد أوحت بأن مصلحة نتنياهو المضطرب تكمن في استمرار الحرب، بحيث يستمر تحالفه ومن ثم هو شخصياً، لكننا لم نفتقد في أي لحظة من يراهن على من قد يكبحه في مؤسسة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، إضافة إلى الحسابات الإسرائيلية والخوف من مثل هذا التوسع في العمليات وعمق الجبهات، خاصة مع القوة الأكبر والأفضل تسليحاً المتمثلة بحزب الله، فهنا حسم الأمر وتبدد الارتباك، وارتفعنا إلى مستوى آخر يفرض تقييماً آخر.
لذا أكرر أنه ليس من المفيد ولا المعقول التقليل من أهمية هذا التصعيد، ولكن بالتفكير الدقيق والعميق لا ينبغي لنا أن نبالغ فيه. نعم إنه مؤلم ومؤلم، ولكنه ليس حكماً بالهزيمة، بل هو أبعد ما يكون عن ذلك.
في المبدأ، فإن أي تحليل منطقي يقودنا إلى استنتاج أن كياناً مثل إسرائيل التي نعرفها، بطبيعة نشأته وأهدافه، ما كان ليقبل بحالة التعايش القلق التي سادت بينه وبين حزب الله، منذ انسحابه من الجنوب في بداية الألفية الجديدة، ناهيك عن الانتقام من عار هذه الهزيمة المهينة؛ تلك المناوشات المتفرقة التي لم تتطور إلى حرب شاملة، ما كانت لتسد تلك الحاجة الإسرائيلية التي نشأت الآن أو أملتها الظروف، على وجه التحديد.
أما عن طبيعة الأشياء وجوهر الأشياء فإن التفوق الإسرائيلي التقني والاستخباراتي ليس جديداً، بل هو شرط وجودي ومكون أساسي من المعادلة، تقبلته المقاومة ونمت وترسخت في ظله، ولم يطرح في أي مرحلة، ولم يزعم أحد أن ميزان هذا التفوق قد مال لصالح المقاومة.
إن الركيزة الأساسية التي ترتكز عليها ظاهرة المقاومة هي تحدي هذا التفوق والقبول بتلقي أكبر الضربات والخسائر.
إن الركيزة الأساسية التي ترتكز عليها ظاهرة المقاومة هي تحدي هذا التفوق والقبول بتلقي أكبر الضربات والخسائر، وتحملها ما دامت قادرة على الرد بعمليات نوعية تؤلم العدو وتستنزفه وتستنزفه.
وأما اندهاشنا من فكرة التحول الكمي الذي يمثله هذا العدد من الانفجارات فهو في الحقيقة مثار اندهاش، فما الغريب في تلك القوة الاستعمارية الاستيطانية المحتلة التي تمارس الإبادة الجماعية الوحشية منذ قرابة عام في جولاتها الأخيرة ضد شعبنا، أن تبادر إلى استهداف وقتل هذا العدد؟
ولعل الدهشة الأولية من العمليات الأخيرة تكمن في سوء تقديرنا بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، واندفاعنا وراء التمنيات، ونسينا الركائز الأساسية التي حكمت هذا الصراع الوجودي منذ البداية. ربما شكل هجوم حماس تطوراً نوعياً مبهراً للمقاومة، ولكن هذا لا يعني أن إسرائيل، التي يدعمها الغرب دوماً وأبداً، أصبحت خصماً تافهاً أو عاجزاً.
ولا ينبغي لنا أن ننسى أن المجتمع الذي يتجه نحو اليمين ويتعرض لتهديدات متزايدة، سوف يصبح أكثر تطرفاً وانحرافاً، ويعود إلى المعادلة رادع الخوف من العقاب ومدى الانتقام، تماماً كما فعل النظام المصري الذي مارس أبشع الانتهاكات بعد يناير.
إن أي قراءة جيدة لطبيعة إسرائيل والدور الذي من أجله أنشئت وتلعب، وأي متابعة لتطورات الأحداث ووحشية العمليات، مقرونة بالصمت الغربي والموافقة الفعلية، لابد وأن تقودنا إلى يقين شبه مؤكد بحتمية التصعيد مع حزب الله، كما مع إيران. ذلك الكيان الذي لا يستطيع الاستمرار من دون التفوق على كل محيطه مجتمعاً، لا يستطيع الاستمرار أيضاً، وقد تجرأ أعداؤه على تهديده، وزادت قناعتهم بأنهم يشكلون تهديداً وجودياً له.
إن إسرائيل، وفقاً لمنطقها الخاص النابع من وضعها الخاص، يجب أن تستمر وتتوسع حتى تتسبب في أكبر قدر ممكن من الضرر والدمار، حتى تتمكن من هزيمة أي مفهوم من هذا القبيل وإعادة بناء جدرانها في مواجهة أعدائها.
لقد أخطأنا عندما استسلمنا لنشوة إذلال الكيان المحتل في السابع من أكتوبر.
وفي الختام، لا بد من وضع الأمور في سياقها التاريخي وأبعادها الحقيقية. فلم يعد أمام إسرائيل مفر من التصعيد، وهي ستواصل ضرب المقاومة في لبنان. وحزب الله سيرد في الوقت المناسب، بعد إصلاح الأضرار التي لحقت بخطوطه، والرد سيكون مؤلماً على الأرجح. ونحن على الأرجح نتجه نحو مزيد من الدمار والألم.
إن إسرائيل لم تنته بعد ولم تتضاءل قوتها العسكرية والاستخباراتية، ولم تُهزم المقاومة رغم الضربة الموجعة.
القدس العربي