في عالم اليوم المترابط، أصبحت الدعوة إلى الحرية والعدالة والتضامن أكثر أهمية من أي وقت مضى. ولكن عندما ندرس المشهد السياسي للعديد من الدول العربية، يتبين لنا أن طريقها إلى التحول إلى مراكز اقتصادية عالمية وتحقيق التنمية بكل أشكالها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يتسم بالتناقضات والانتقائية. ورغم أن التاريخ أثبت أن نهضة الأمم يجب أن تكون شاملة وليست انتقائية، فإن العديد من الدول العربية تحاول تحقيق التنمية في الوقت نفسه الذي يتم فيه قمع أصوات المعارضة والتضامن وتهميش حرية التعبير. ويتجلى هذا التناقض بوضوح في كيفية إدارة هذه الدول للاحتجاجات الداخلية، وخاصة تلك التي تدعم القضية الفلسطينية. ولكي نحقق نهضة حقيقية، يجب ألا ننسى أن سياسات هذه الدول في مجال حرية التعبير يجب أن تتوافق مع طموحاتها الاقتصادية ومسؤولياتها الأخلاقية.
لقد كان الوضع في غزة منذ فترة طويلة رمزاً للنضال الفلسطيني الأوسع من أجل الاستقلال وتقرير المصير. ومع ذلك، استجابت معظم الدول العربية للإبادة الجماعية الأخيرة لشعب غزة بتقييد المظاهرات العامة وحرية التعبير. وتتناقض هذه القيود بشكل صارخ مع التصريحات الدبلوماسية للقادة السياسيين العرب الذين يزعمون دعم الحقوق الفلسطينية والجهود الرامية إلى إنهاء الحرب. ويثير هذا التناقض سؤالاً أساسياً: هل يمكن لأمة أن تدعي دعم العدالة والحرية بينما تقمع الأصوات التي تدافع عن هذه القيم داخل حدودها؟
لقد استجابت أغلب الدول العربية للإبادة الجماعية الأخيرة في غزة بتقييد المظاهرات العامة وحرية التعبير. وتتناقض هذه القيود بشكل صارخ مع التصريحات الدبلوماسية التي يدلي بها الزعماء السياسيون العرب الذين يزعمون دعمهم للحقوق الفلسطينية والجهود الرامية إلى إنهاء الحرب.
ولقد أدت عملية التطبيع مع إسرائيل من جانب بعض الدول العربية إلى تعقيد هذا الوضع. فبالنسبة للقادة العرب، تم تبرير التطبيع باعتباره خطوة براجماتية نحو الاستقرار الإقليمي والتعاون الاقتصادي؛ ومع ذلك، ساهمت هذه المناورة السياسية أيضًا في قمع الحركات الاحتجاجية داخل هذه البلدان. تاريخيًا، دعمت الشعوب العربية باستمرار القضية الفلسطينية، واعتبرتها رمزًا للمقاومة ضد الاحتلال والظلم. ومع ذلك، في البلدان التي طبّعت العلاقات مع إسرائيل، مثل الإمارات العربية المتحدة والبحرين، كانت هناك حملة قمع ملحوظة للمظاهرات والتعبير عن التضامن مع الفلسطينيين. وهذا التحول ليس مجرد استراتيجية سياسية؛ بل هو تحد مباشر للسرد التاريخي للتضامن العربي مع فلسطين.
إن دولة الإمارات العربية المتحدة، على وجه الخصوص، تقدم مثالاً صارخاً على هذا التناقض. ففي حين وضعت الدولة نفسها كمركز للنمو الاقتصادي والتقدم التكنولوجي والتسامح الثقافي، فإنها كانت تعمل أيضاً بنشاط على إسكات المعارضة. وفي حين شارك الناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي صوراً للجندي الإسرائيلي إيال هكشار، الذي كان يقاتل في غزة، وهو يقضي إجازته في الإمارات العربية المتحدة، ظهرت تقارير عن اعتقال أفراد وتغريمهم وحتى ترحيلهم بسبب “تضامنهم عبر الإنترنت” مع القضية الفلسطينية. وهذه الإجراءات ليست حوادث معزولة، بل هي جزء من استراتيجية أوسع للسيطرة على السرد وقمع أي شكل من أشكال الدعم للقضية الفلسطينية. على سبيل المثال، في مايو/أيار من هذا العام، تم ترحيل طالب فلسطيني في الإمارات العربية المتحدة بعد أن تجرأ على ارتداء الكوفية والهتاف “فلسطين الحرة” خلال حفل تخرجه. ويؤكد هذا الحادث على سياسة الإمارات العربية المتحدة الأوسع نطاقاً في عدم التسامح تجاه المظاهر العامة لدعم القضية الفلسطينية.
وقد أثارت هذه الإجراءات غضب المقيمين العرب في الإمارات العربية المتحدة، الذين تعرضوا للاعتقالات التعسفية والترحيل دون أي انتهاكات واضحة للقانون أو النظام العام. ويبدو أن مبرر الحكومة ينبع من الخوف من فقدان السيطرة على الرواية الوطنية، والرغبة في الحفاظ على صورة الاستقرار والانفتاح التي تجتذب المستثمرين والسياح الأجانب. ومع ذلك، فإن هذا النهج يثير سؤالا حاسما: هل يستحق التنمية الاقتصادية ثمن قمع الحريات والحقوق الأساسية؟
إن قمع التضامن الفلسطيني ليس مجرد مشكلة تقتصر على الاحتجاجات. بل إنه يمتد إلى نظام التعليم، حيث يشكل محو الهوية الفلسطينية من المناهج المدرسية اتجاهاً مقلقاً. فبدلاً من إدانة أفعال مثل استخدام رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو لخرائط تمحو فلسطين بالكامل، اختارت بعض الدول العربية إزالة الخريطة الفلسطينية من موادها التعليمية. وهذا المحو التعليمي ليس مجرد إغفال؛ بل هو خطوة مدروسة لإعادة تشكيل الإدراك العام والوعي، ومواءمته مع الاستراتيجيات السياسية التي تسعى إلى استرضاء الحلفاء الدوليين على حساب الحقيقة التاريخية والتضامن الإقليمي.
ولا يقتصر قمع المعارضة ومحو السرديات التاريخية على القضية الفلسطينية. ففي الإمارات العربية المتحدة، اتُخِذت تدابير مماثلة ضد المواطنين البنغاليين الذين نظموا احتجاجات لدعم الطلاب في وطنهم، فضلاً عن المواطنين الأفغان الذين احتجوا على ضعف حقوق العمل والمزايا. وفي كل هذه الحالات، استخدمت الحكومة استراتيجيات لتأجيج المشاعر القومية بين الشباب الإماراتيين، كما راقبت السلطات الإماراتية عن كثب قاعات الصلاة والمساجد في المناطق ذات الدخل المنخفض لمنع التجمعات المحتملة والاضطرابات بين العمال المهاجرين. والقلق الأساسي لا يتعلق فقط بالاحتجاجات، بل يتعلق أيضًا بالتأثير الأوسع الذي قد يشوه صورة الإمارات العربية المتحدة ويهدد اقتصادها.
إذا كانت الدول العربية جادة في تحقيق طموحاتها في التحول إلى مراكز اقتصادية عالمية، فيتعين عليها أن تتبنى نهجاً أكثر شمولاً وانفتاحاً في الحكم. وهذا يتطلب السماح بحرية الرأي والتعبير، ودعم الاحتجاجات السلمية، واحترام حقوق جميع المقيمين، بغض النظر عن جنسياتهم أو معتقداتهم السياسية.
إن هذا الخوف من انتشار المعارضة إلى قطاعات أخرى من المجتمع يعكس قلقاً أوسع نطاقاً بشأن استدامة نموذج الحكم الحالي. فالإمارات العربية المتحدة، مثلها كمثل العديد من الدول العربية الأخرى، تسير على حبل مشدود بين تعزيز النمو الاقتصادي والحفاظ على السيطرة السياسية. إن قمع الحركات الاحتجاجية وإسكات الأصوات المؤيدة لغزة وغيرها من الأصوات قد يوفر الاستقرار في الأمد القريب، ولكن في الأمد البعيد، من المرجح أن تؤدي مثل هذه الإجراءات إلى تقويض الأساس ذاته للتنمية الوطنية. ولا يمكن للدول أن تزدهر بينما تخنق مبادئ العدالة والحرية والتعبير التي تدعم التقدم والابتكار الحقيقيين.
إذا كانت الدول العربية جادة في طموحاتها إلى أن تصبح مراكز اقتصادية عالمية، فيتعين عليها أن تتبنى نهجاً أكثر شمولاً وانفتاحاً في التعامل مع قضايا الحكم. وهذا يتطلب السماح بحرية الرأي والتعبير، ودعم الاحتجاجات السلمية، واحترام حقوق جميع المقيمين، بغض النظر عن جنسياتهم أو معتقداتهم السياسية. وربما يوفر القمع والرقابة سيطرة مؤقتة، ولكنهما لا يبنيان مجتمعات قوية ومرنة.
إن نهضة الأمم هي مسعى شامل. ولا يتطلب الأمر فقط سياسات اقتصادية تجتذب الاستثمار والتنمية، بل يتطلب أيضاً الالتزام بحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية ومبادئ الحرية والمساواة. ومن خلال إعطاء الأولوية الانتقائية لجوانب التنمية، تخاطر الدول العربية بخلق بيئة حيث يتم بناء الرخاء الاقتصادي على أساس هش من القمع والسيطرة. وقد أظهر التاريخ أن مثل هذه النماذج غير مستدامة. ولكي تقود هذه البلدان العالم كمراكز اقتصادية وثقافية حقيقية، يجب أن تدرك أن الحرية والتضامن والعدالة ليست اختيارية؛ بل إنها ضرورية. ويجب أن تدرك أن النهضة الحقيقية لا تتعلق بالتقدم الانتقائي، بل بالنمو الشامل والمبدئي الذي يتردد صداه لدى جميع شرائح المجتمع.
x.com/fatimaaljubour