لقد حققت جماعة الإخوان المسلمين في الأردن مكاسب كبيرة في الانتخابات الأردنية الأخيرة، حيث حصلت على 31 مقعداً في مجلس النواب، أي بنسبة 22% من إجمالي المقاعد. فهل كان هذا الفوز فوزاً طبيعياً لشريحة مهمة من الشعب الأردني؟ أم أنه فخ سياسي نصبه لهم النظام؟
وللإجابة على هذا السؤال، لا بد من فهم السياقات التي جرت فيها هذه الانتخابات البرلمانية، لأنها ستخبرنا بمجموعة من الحقائق التي لا بد من أخذها بعين الاعتبار للإجابة على السؤال السابق:
السياق 1: فرص التأثير والتغيير
ولم يشارك في هذه الانتخابات سوى 32% من الناخبين المؤهلين، ما يعني أن ثلثي الشعب الأردني لا ينظرون إلى العملية الانتخابية برمتها كمسار حقيقي وموثوق للتغيير.
إن النسبة التي حصلت عليها جماعة الإخوان أو ذراعها السياسية حزب جبهة العمل الإسلامي لا تتجاوز ربع مقاعد البرلمان، وهي نسبة لا تستطيع تمرير أو عرقلة أي قانون في البرلمان من دون تحالف انتخابي للوصول إلى الثلث المعطل.
إن النسبة التي حصلت عليها جماعة الإخوان أو ذراعها السياسية حزب جبهة العمل الإسلامي لا تتجاوز ربع مقاعد البرلمان، وهي نسبة لا تستطيع تمرير أو عرقلة أي قانون في البرلمان من دون تحالف انتخابي للوصول إلى الثلث المعطل.
وحتى لو سيطر الإخوان على 100% من مقاعد البرلمان وشكلوا الحكومة، فلن يتمكنوا من تمرير قانون واحد من دون موافقة الغرفة الثانية في البرلمان (مجلس الشيوخ)، الذي يعين الملك جميع أعضائه!
وحتى لو افترضنا أن الإخوان المسلمين يملكون أداة سحرية لإقناع أعضاء مجلس الشيوخ بالموافقة على قانون ما، فإن الملك لا يزال يملك سلطة رفض القانون أو طلب تعديله أو الموافقة عليه.
وحتى لو افترضنا جدلا أن ممثلي الإخوان المسلمين الذين يملكون ـ نظريا ـ 100% من مقاعد البرلمان يصرون على موقفهم من مشروع قانون معين أو موقف سياسي معين، ويدخلون في تحد للملك، فإن الملك لا يزال يملك سلطة حل البرلمان وإعادة الجميع إلى نقطة البداية!
الاستنتاج المهم هنا هو أن الإخوان المسلمين الذين لا يشغلون سوى 22% من مقاعد البرلمان يجدون أنه من المستحيل عمليا تمرير أي قانون أو فرض أي إجراء برلماني مهم من دون موافقة وتفهم القصر الذي جمع بين يديه كل خيوط اللعبة التي صممها بعناية فائقة، والتي لا تسمح بإصدار أي قرار من دون موافقته الكاملة.
السياق الثاني: الحرب على غزة
لقد جرت الانتخابات البرلمانية في ظل الحرب على غزة، والتي استغلها الإخوان جيداً لاستقطاب أصوات الناخبين، وكان مثلث المقاومة الشهير أحد الشعارات الرسمية للحملة الانتخابية، ولكن باللون الأخضر. وقد غلب على الفعاليات الانتخابية رفع سقف الدعم لفلسطين والحرب على غزة، بحيث نستطيع أن نقول إن جزءاً كبيراً من النصر الانتخابي كان من نصيب غزة والمقاومة. وحتى لو لم يقابل هذا النصر الانتخابي دعم على الأرض، فإن كل الفعاليات التي جرت في الأردن غلب عليها منطق تسجيل المواقف وليس تغيير الحقائق.
والدليل على ذلك أن حماس وأبو عبيدة يطالبان الأردنيين في كثير من خطاباتهم باتخاذ خطوات “متقدمة” لدعم القضية، وهو ما يعني منطقياً أن ما يتم تقديمه أقل بكثير مما هو مطلوب، فمثلاً شاحنات الغذاء والدعم والمساعدات للكيان الصهيوني لا تزال تتحرك عبر البلاد متجهة إلى دولة الاحتلال، بينما شعبنا في غزة يتضور جوعاً ويقتل بلا رحمة.
ولذلك يمكن القول إن الغالبية العظمى من الفعاليات المؤيدة لفلسطين التي جرت في الأردن كانت بتوقيع الإخوان هناك، ولكنها كانت أقل بكثير مما كان ينبغي أن تتم، إلى درجة أننا نستطيع أن نقول إنها كانت كافية لتحقيق النصر في البرلمان، ولكن ليس من أجل فلسطين، فقد ظلت الفعاليات تتحرك في الفضاء الذي يرضى به النظام الذي يدعم الاحتلال بكل أشكال الدعم، في مفارقة مدهشة ومثيرة في الوقت نفسه.
السياق الثالث: قانون الانتخاب
إن النظام الانتخابي صمم لتقليص فرص نجاحهم فقط، وليس لمنعهم تماماً من دخول البرلمان. وإذا أراد الملك أو النظام منعهم تماماً من دخول البرلمان، فلديه القدرة على ذلك وقد فعل ذلك من قبل.
ويرى البعض أن هذا انتصار تاريخي لأن النظام الانتخابي تم تصميمه بعناية لمنع الإخوان من الوصول إلى البرلمان. وهذه المعلومة صحيحة بالفعل، ولكن بشكل “نسبي”. فالنظام الانتخابي، دون الدخول في التفاصيل، جعل الدوائر التي يتمتع فيها الإخوان بنفوذ شعبي أقل من حيث عدد المقاعد البرلمانية، مثل المدن الكبرى، والدوائر التي يقل فيها حضورهم خصص لها عدد أكبر من المقاعد، مثل المناطق القبلية. لقد وصلنا إلى مفارقة ـ مثيرة للاهتمام أيضاً ـ وهي أن الدوائر الانتخابية التي يعيش فيها ثلثا الأردنيين لا تنتخب إلا ثلث مقاعد البرلمان والعكس صحيح!!
ولذلك يمكننا القول إن النظام الانتخابي صمم لتقليل فرص نجاحهم فقط وليس لمنعهم من دخول البرلمان بشكل كامل، وإذا أراد الملك أو النظام منعهم من دخول البرلمان بشكل كامل فهو قادر على ذلك وقد فعل ذلك سابقاً.
على سبيل المثال، في عام 1989، وبعد عودة الحياة البرلمانية مرة أخرى، تمكن الإخوان من الحصول على 27% من مقاعد البرلمان، ولكن بسبب اتفاقية وادي عربة عام 1994 وقرار فك الارتباط بالضفة الغربية، تم إقصاؤهم من المشهد السياسي منذ ذلك اليوم وتم محاصرتهم وقمعهم، فما الذي تغير الآن ليعيدهم إلى المشهد مرة أخرى؟
وبعد عرض هذه السياقات نصل إلى الجواب على السؤال الذي جعلناه عنواناً للمقال: هل صعد الإخوان الأردنيون إلى الشجرة؟!
الجواب هو نعم بكل تأكيد، والنظام الأردني يعرف جيداً أن الشعب الأردني شعب إسلامي ويدعم فلسطين، ولذلك فمن الطبيعي والمنطقي أن يكون للإخوان هناك شعبية كبيرة، فهم القوة الأكثر تنظيماً وحشداً هناك.
لكن بنية النظام نفسه ضعيفة إذا ما قورنت بمحيطه العربي ووضعه الديمغرافي مع دولة الاحتلال، وفي ظل الوصول إلى قناعة بأن هدف الحرب على غزة هو الضفة الغربية وتهجير سكانها إلى الأردن، وهو ما قد يهدد استقرار العرش، وهو ما ظهر جلياً في العديد من تصريحات المسؤولين الصهاينة، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر تعمد نتنياهو عرض خريطة فلسطين من دون الضفة الغربية.
وعليه يمكن القول إن النظام الأردني أعادهم إلى الواجهة من جديد لتصديرهم كيمين ديني في مقابل اليمين الإسرائيلي الذي يمسك بزمام الحكم هناك، وأن النظام كما استبعدهم بعد اتفاقية وادي عربة مع الاحتلال أعادهم من جديد لإيجاد التوازن في الضغوط التي يمارسها الاحتلال عليه.
كما أدت حرب غزة إلى تآكل شرعية النظام. ففي الانتخابات البرلمانية الأخيرة لم تتجاوز نسبة المشاركة 20%، وهي نسبة منخفضة للغاية. وقد أتيحت الفرصة للإخوان لرفع نسبة المشاركة إلى 32.5%. نعم، لا تزال النسبة منخفضة، ولكنها أفضل كثيراً من ذي قبل، وهو ما يعطي الشرعية للملكية هناك.
كما أراد النظام التحكم في إيقاع الاحتجاجات الداعمة لفلسطين، وتوفير مساحة لتسجيل المواقف وتفريغ الطاقات تحت قبة البرلمان دون استفزاز الشارع الأردني بشكل مستمر هو الخيار الأكثر أماناً للنظام، خاصة بعد أن أوضحنا أن أداء الإخوان تحت قبة البرلمان، مهما كان سقفها مرتفعاً، سيبقى تحت سقف «الطابق الأول» في بناية شاهقة متعددة الطوابق، فيما يتصل بالتأثير الحقيقي في صنع القرار.
إن توفير مساحة لتسجيل المواقف وتنفيس الطاقات تحت قبة البرلمان من دون استفزاز الشارع الأردني بشكل مستمر، هو خيار أكثر أماناً للنظام، خاصة بعدما أوضحنا أن أداء الإخوان تحت قبة البرلمان، مهما ارتفع سقفها، سيبقى تحت سقف «الطابق الأول» من بناية شاهقة.
هذا النصر العظيم، الذي كان بمثابة تسلق الشجرة، سيفرض على الإخوان خيارات محدودة، وهي التي ستحدد ما إذا كان النزول منه سيكون سلساً أم قسرياً.
الخيار الأول: قبول دور المعارضة الزخرفية التي سيرتفع صوتها كثيراً دون أي تأثير حقيقي على الأرض، بحيث تلعب الدور الذي أراده النظام منها عبر الفخ المحكم الذي أعد لها ـ فهو لا يستبعد اختيار وزراء هامشيين من الإخوان ـ وبالتالي تخسر رهان المواطن الأردني عليها، مما يسهل إقصائها مجدداً عن المشهد بعد أن احترقت سياسياً (النموذج المصري).
الخيار الثاني: لعب دور المعارضة الحقيقية التي تضع مصلحة الوطن والشعب فوق أي شيء آخر، وهذا يتطلب مواجهة قوية داخل البرلمان، يتوازى معها حراك شعبي مؤثر على الأرض، مهما كان الثمن المطلوب لتعويض العجز عن التأثير في قبة البرلمان، وبالتالي اكتساب المزيد من الشرعية الشعبية والأخلاقية لدى الشعب الأردني، والتحول إلى رقم صعب في المعادلة السياسية لا يمكن تجاوزه أو إقصاؤه.
الخيار الثالث: محاولة مسك العصا من المنتصف بحيث تكون الاستراتيجية الأساسية تسجيل المواقف وليس الضغط الحقيقي لإحداث التغيير من خلال سقف عال تحت قبة البرلمان لأنه لا تأثير له، وفعاليات شعبية تسجل حضورا أكثر من تأثير، وهذا لن يخدع أحدا، وبالتالي تكون النتيجة فقدان ثقة المواطن وشعور النظام بالخطر، فنصل إلى نفس النتيجة في الخيارات السابقة!! وهي أن كل خيارات النزول عن الشجرة ستكون صعبة وضرورية، وهذا ما يجب أن يفهمه الإخوة الأردنيون، مع التأكيد على أنه في باب الأماني، أتمنى من الله السلامة لكل أهلنا في الأردن، وأن تكون هناك مصالحة حقيقية لصالح الوطن بين النظام والشعب ومكوناته المختلفة.
لكن الباحث لا يحلق في عالم التمنيات والرغبات، بل يتجرد من العواطف والرغبات لصالح الحقائق والوقائع على الأرض، والتي كثيراً ما تكون مزعجة وقاسية، ومن صدمته مصداقيتها يفضل أن يعيش في حالة من الإنكار والنشوة في اللحظة إلى أن تأتي الكارثة. إنها رسالة المستقبل من «التجربة المصرية» إلى حاضر «التجربة الأردنية».
Discussion about this post