نحن نكتب ساخرين رغم آلام غزة، ولنا الحق في السخرية من النظام العربي الرسمي، وخاصة ما كان يسمى بالدول المؤثرة أو ذات الثقل. بعد الطوفان لم نعد نعتبرها إلا عبئاً من الشحم والدهن (وسنحتفظ برائحة المقال الطيبة). لقد سقطت مؤسسة اسمها جامعة الدول العربية إلى الأبد، وتلك الجملة التي تليها في نشرات الأخبار هي مؤسسات العمل العربي المشترك.
ولنا الحق في أن نسأل، فنحن نعيش منذ أكثر من نصف قرن من الزمان وهم تحرير فلسطين من خلال العمل العربي المشترك، ثم تشارك الأنظمة العربية، كل حسب استطاعته، في تكريس احتلال فلسطين، وفوق ذلك لا تخجل من أن يفضح العدو تحريضها على تدمير المقاومة.
كيف سيحكمون شعوبهم الآن بعد أن انكشفت مؤامرتهم على المقاومة ومن يساندها ولو بالقول؟ المقاومة ستكسب الكثير من حربها وهي الآن لاعب محوري في المنطقة، فماذا ستفعل الأنظمة التي كانت تتحدث باسم فلسطين وتحرير المقدسات؟
لقد عشنا لأكثر من نصف قرن من الزمان وهم تحرير فلسطين من خلال العمل العربي المشترك، إلا أن الأنظمة العربية تشارك بكل ما أوتيت من قوة في تكريس احتلال فلسطين، كما أنها لا تخجل من أن يفضح العدو تحريضها على تدمير المقاومة، فكيف تحكم شعوبها بعد أن انكشفت مؤامرتها على المقاومة ومن يساندها ولو بالقول؟
لم نعد نرى سوى الأجهزة القمعية.
منذ الانقلاب العسكري العربي الأول كان خطاب الشرعية السياسية يرتكز على معركة تحرير الأمة، بدءاً بتحرير فلسطين. ولا نستطيع أن نحصي عدد خطباء الانقلاب الذين قاموا بالحج إلى مدينة القدس الشريف. ولكن بعد حرب الطوفان والمؤامرة على المقاومة، هل يمكن تسويق هذا الخطاب إلى الجمهور الذي عاش المعركة ومُنع بكل الوسائل من المشاركة فيها أو حتى التبرع بالدم؟
لقد سقطت هذه الحجة لبناء الشرعية، بل انكشفت كذبة وفضيحة، وأصبحت طعنة في الشرعية السابقة، فقام الطوفان بتصحيح الأكاذيب السابقة، وسحب الأكاذيب الحالية، ومنع أكاذيب المستقبل، ولم تعد الأنظمة العربية، باستثناء قطر، قادرة على الكذب باسم فلسطين، ولن تستطيع أن تسند كراسيها في المعركة الوطنية التي أسقطتها، وما ينطبق على الأنظمة ينطبق على الحركات السياسية القومية واليسارية التي تدافع عن هذه الأطروحة وتبني وجودها عليها، ومن أجلها وقفت مع كل انقلاب حتى أصبحت مجرد حركات انقلابية.
وإذا أضفنا إلى هذا الفشل السياسي والعسكري للمقاومة فشل الأنظمة العربية في كل معارك التنمية المعلنة ودفع بلدانها إلى مستويات من المديونية تكبلها الآن وفي المستقبل، فكيف ستدعم شرعيتها؟ علماً أن أحداً منها لم يصل إلى السلطة عبر انتخابات نزيهة، ولم تكن خلفه كتلة شعبية محترمة، ولم يخوض معركة حقيقية حتى ضد جائحة كورونا. كل ما تبقى هو جهاز القمع بكل معداته، ونعتقد أنه الجهاز الوحيد الصالح للاستخدام في ثكنات الأنظمة.
ستتزايد وتيرة القمع.
إن تآكل عناصر الشرعية لم يترك للأنظمة العربية أي أساس للحكم سوى اغتصاب إرادة شعوبها لفترة أخرى بقمع أشد قسوة ووحشية. وهي الآن مدعومة بمجموعات من الطامعين في الظل، لكن هذا الظل نفسه يتقلص باستمرار ولن يكون من الممكن رشوة وسائل الإعلام الدولية الموثوقة للدفاع عنها. حتى الصحف الغربية المعروفة التي كانت تنشر مقالات دعائية مدفوعة لهم فقدت مصداقيتها في حرب الطوفان، ولن يكون من الممكن نشر المزيد من الأكاذيب حول النجاحات السياسية العربية أمام شعوبها وأمام العالم. لقد مسح النظام الجنوب أفريقي الأرض بهم.
لقد استغل الكيان الأنظمة قبل الطوفان ثم استنزفها حتى العظم في هذه المعركة، وبارك الأنظمة الغربية دور هذه الأنظمة ودعمتها بالمال والسياسة، ولكن الأنظمة الغربية فقدت الكثير من مصداقيتها لدى شعوبها وستتحرك في المستقبل القريب ـ بمجرد التوصل إلى وقف إطلاق النار ـ من أجل استعادة علاقتها بشعوبها الثائرة، ومن أجل إعادة فتح قنوات العمل لشركاتها التي تضررت من المقاطعة، ولهذا السبب فإنها ستتخلى عن الكثير من الدعم للأنظمة العربية وتمارس مسرحية دعم الديمقراطية التي تتقنها عادة، وهذا له ثمن مالي وسياسي في المستقبل المنظور.
لقد استغل الكيان الأنظمة قبل الطوفان ثم استنزفها حتى العظم في هذه المعركة، وبارك الأنظمة الغربية دور هذه الأنظمة ودعمتها بالمال والسياسة، ولكن الأنظمة الغربية فقدت الكثير من مصداقيتها أمام شعوبها، وستتحرك في المستقبل القريب ـ بمجرد التوصل إلى وقف إطلاق النار ـ من أجل استعادة علاقتها بشعوبها الثائرة، ومن أجل إعادة فتح قنوات العمل لشركاتها التي تضررت من المقاطعة، ولهذا السبب فإنها ستتخلى عن الكثير من الدعم للأنظمة العربية، وتمارس مسرحيات دعم الديمقراطية.
سنسمع في المنتديات السياسية الغربية حديثا عن دعم الحريات والديمقراطية في مصر وتونس والجزائر وحتى في حقول النفط السعودية، وستترجم هذه الخطابات إلى ابتزاز وضغط قد تنجح النخب المظلومة في النزول إلى الشوارع (حتى لو كان هذا أملا ضعيفا)، كل هذا سيدفع الأنظمة نحو المزيد من القمع والفشل الاقتصادي، مما سيضعها في مواجهة شوارع فقيرة ومضطهدة ترى في يحيى سريع بطلا قوميا وتسخر من السيسي وتبون وسعيد.
شرعية المقاومة تعود وتوجّه الشارع العربي
هذه نتيجة مباشرة وسريعة لمعركة الطوفان، فقد اتضحت الصفوف وتعمق الفرز حتى لم يعد هناك مجال للتراجع، وتوقعاتنا المتفائلة هي أن الطائرات لن تحلق فوق غزة وتترجمها، فقد أصبحت غزة مستقلة وستخضع لإعادة الإعمار بنفس الروح التي قاومت بها تسعة أشهر (نتوقع أن تستمر المناوشات حتى نهاية العام)، وستتحدث المقاومة وأنصارها من الناس عن مكاسب المقاومة وتبني عليها، وسيكون خطابها القادم القدس محررة دون تدخل الأنظمة المتواطئة.
لقد نشأت شرعية أخرى على الأرض وخارج الخطاب القومي الخادع للأنظمة والحركات القومية التي بقيت متأخرة في المعركة، لقد خاب أملنا وقت المعركة بسبب ضعف التعاطف الشعبي وانعدام الثورة في الشارع العربي مع المقاومة، ولكن اندفاع الأردنيين للتبرع بالدم عندما دعا المذيع إلى ذلك كشف عن مدى ولائهم للمقاومة، وهذه أصول كامنة سيكون لها تأثيرها وفعلها في الأيام القادمة.
لقد ترك الربيع العربي أثره في النفوس ولم يغب طعم الحرية عن ألسنة من ذاقها، وتبعه مرارة الانقلابات وخيبة الأمل، ولكن الخيبة تعلم أحيانا، سيشارك التونسيون في انتخابات مزورة وسيزداد وعيهم بالحرية، وستؤثر أزمة الكهرباء وانقطاع مياه الشرب وتجميد الرواتب وإغلاق فرص العمل وحتى نقص الأعلاف على النفوس، ولن تكون هذه التراكمات، إضافة إلى انتصار غزة واستقلالها، خالية من التأثير، ولكن الأمر مرتبط بشرارة غير متوقعة.
في انتظار هذا المشعل المجهول الذي قد يكون صفعة أمنية أخرى في وجه فقير مثل البوعزيزي، نحن على يقين من أن أياً من الأنظمة العربية لا يملك الشرعية للبقاء والحكم. لقد كشفتهم حرب الطوفان، وكشفت بقية العيوب التنموية والسيادية. نحن الآن تحت حكم أجهزة قمعية تحمي أنظمة فاشلة معادية لشعوبها. هذا وضع مؤقت، وكلما زادت درجة القمع للبقاء، كلما انكشفت، مثل السن المصابة بالتسوس.
إن السياسي المعارض العربي الذي سيبني أحكامه وأفعاله على نتائج حرب الطوفان سوف يكون له الحق في قيادة شعبه إلى نصر ديمقراطي عظيم. متى سيحدث ذلك؟ لقد علمتنا غزة الصبر.
Discussion about this post