مسعود عمشوش*
تشكل ظاهرة خضوع القائمين على الصحافة الثقافية لضغوطات المعلنين، الذين اتجهوا نحو الإعلام الرقمي قليل التكلفة والأوسع انتشارا، إحدى أهم التحديات التي تواجه الإعلام الثقافي. فقد أدّت تلك الظاهرة إلى اختفاء الصفحات والأبواب الثقافية من كثير من الصحف، في نسخها الورقية والرقمية. واليوم أصبحت الثقافة في الإعلام أمرا ثانويا وأعطيت عرب تايموية للإشهار. وقد تجلّى ذلك في التضحية بالصفحات والملاحق الثقافية في الصحف. وتتجسد أسبقية الإشهار على المحتوى الثقافي في إلغاء التغطيات الثقافية لتوفير الحيز للإعلانات، ونزوع الوسائل الإعلامية المختلفة إلى الاهتمام بجوانب الإثارة، بدلا عن المضامين الفكرية والفنية والإبداعية المختلفة. ويرى الصحفي المصري محمد أبوزيد أن من أسباب تراجع الصحافة الثقافية، الحجم الكبير للمساحات المطلوبة للإعلانات، ويؤكد أن “أول صفحة يتم التضحية بها في حال كان هناك إعلان، أو موضوع سياسي عاجل، هي الصفحة الثقافية”. وهذه ما نلاحظه اليوم في صحيفة (14 أكتوبر) ومعظم الصحف الصادرة في بلادنا، التي بالمقابل ضاعفت عدد الصفحات المكرسة للرياضة والصحة والحوادث المثيرة.
ويبرر رئيس تحرير صحيفة (الأيام) العدنية، باشا شراحيل، توقف الصحيفة عن نشر أي مادة ثقافية بسبب الغياب التام لقراء المواد الثقافية في النسختين الورقية والرقمية من الصحيفة. ومن المعلوم أن الصفحة الثقافية التي كانت الصحيفة تنشرها بعنوان (الأدب الجديد) قد اكتسبت شهرة كبيرة بين أوساط القراء منذ ستينات القرن الماضي.
وقد تحدث عن الصفحة الثقافية في صحيفة (الأيام) ودور الإشهار في أزمة الصحافة الثقافية عموما الصحفي المثقف رعد أمان، وذلك في مقال نشره في مجلة (الشارقة الثقافية، عدد أغسطس 2024) بعنوان (الأيام الصحيفة التي أحب)، قائلا: “ما كان لي وأنا في المرحلة الثانوية أن أصبّح في يوم من الأيام دون أن أطلع على الصفحة الثقافية في صحيفتين على الأقل من الصحف في بلادي، وإحداهما لا أزال إلى اليوم أطَّلع على ما تنشره وأقرأها بصورة شبه يومية، بعد أن صار من الممكن قراءة أي صحيفة في العالم من خلال الهاتف، والأجهزة اللوحية وشاشات الحاسوب، وما زلت أتذكر لحظات جلوسي مع بزوغ شمس كل صباح جديد، وقبل توجهي إلى مدرستي، وأحياناً بعد انتهاء اليوم الدراسي، في ذلك المقهى الشعبي العتيق بحي مدينة عدن القديمة (كريتر) لاحتساء الشاي، وقراءة محتوى الصفحة الثقافية في صحيفتي التي أحببت، وكأن ثمة رابطاً روحياً كان يشدني شداً إلى ذلك المكان وتلك اللحظة، التي تتيح لي اكتساب مزيد من الفائدة والمتعة مما كنت أقرأه في الصفحات، فلم يكن يعنيني من أي صحيفة تقع في يدي إلا الصفحة الثقافية فيها بالدرجة عرب تايمى، وأحسب الأمر كذلك لدى الآخرين مع صفحات اختصاصاتهم واهتماماتهم الشخصية المختلفة، وهذا ما يجعل المرء دائم الارتباط مع ما يحب من مجالات الفكر والآداب والفنون.
أما اليوم فقد تغيّر الوقت وتغيرت معه الصحافة الثقافية في أكثر من مكان، صرت ألاحظ قلة اهتمام كثير من الصحف العربية بتخصيص صفحة للمنشورات ذات الطابع الأدبي والثقافي عامة، بعضها يستكثر إفراد صفحة كاملة للثقافة وقد قلصها إلى النصف ثم إلى الربع، وبعضها الآخر ينشر المادة الثقافية على استحياء وعلى فترات متفاوتة، أما البعض الثالث فقد ألغاها نهائياً، لأن المساحة التي كانت مخصصة لها فضَّل أن يستفيد منها فيما يدر عليه ربحاً مؤكداً يضمن له الاستمرارية، ويبعد عنه شبح التوقف عن الصدور، وأعني هنا المادة الإعلانية بشكليها المكتوب والمصور، والتي أصبحت طاغية على الغالبية الغالبة من الصحف في عالمنا العربي، وهذه إشكالية حقيقية وواقع يعيشه اليوم كل من له علاقة بميدان الصحافة والثقافة”.
أما الصحفي السعودي عبد الوهاب العريّض، الذي له باع طويل في تحرير الصحافة الورقية في كل من السعودية والبحرين والأردن والكويت والإمارات، فيربط الأزمة الراهنة للصحافة الثقافية في الإعلام العربي ليس بهيمنة الإشهار (الإعلان) فقط، لكن كذلك بضعف مستوى القائمين عليها والصحفيين، الذين يرى أنهم مجرد (هواة).
*المصدر: كتاب (الإعلام الثقافي)