لقد قدر لجيلنا أن يحيا في قاع الزمن، فالزمن له مسارات عجيبة، فهو كالشمس تشرق حتى تقف في قمة العالم، ثم تهبط حتى تصل إلى القاع، ثم تشرق من جديد، وهكذا حتى تصل إلى نهايتها، يوم يطوي الله الزمان والمكان.
أما جيلنا فقد جاء في أصعب الأوقات، لقد أتينا في القاع، أو في اللحظة التي بلغنا فيها القاع، وهي اللحظة التي كان فيها الكثير مما في القاع من غبار وأوساخ وروائح وإحباطات وهزيمة.
بسبب هذا القاع الذي وجدنا فيه حاول بعض أبناء هذا الجيل الصعود، حاولوا البحث عن طريقة معينة لـ”إعادة عقارب الساعة”، كنت أقرأ حديثاً نبوياً يقول: “لقد دار الزمان”، لم أكن أعرف وقتها معنى الحديث، معنى أن يدور الزمان، أن يدور، أن يصعد، أن يأخذنا معه إلى قمة العالم. لكن الآن فهمت حركة الزمن، عرفت قوة هذا المخلوق الذي يستطيع أن يصل إلى القمة، ثم يعود إلى القاع.
في محاولاتنا لإيجاد مخرج، لإيجاد معنى، فقد كثيرون طريقهم. ثار كثيرون ضد التراث، وضد الدين، وضد الله، وضد الأسرة، وضد التقاليد، وضد كل ما اعتقدنا أنه قادنا إلى هذا القاع. وظن هؤلاء الناس أن هذه هي الطريقة الوحيدة للخروج من هذه الشرنقة، من هذا التابوت، من هذا القاع الذي وصلنا إليه.
شيء ما ينقصنا، نبحث عنه منذ غروب شمس مساء بعيد، وهذا الشيء يجعلنا قلقين غاضبين محبطين يائسين، نبحث دائماً عن أنفسنا، عن المعنى الذي ضاع في غبار كثيف من الخطب والأقوال والأفكار والفلسفات التي لم توصلنا إلا إلى المزيد من القاع الدنيوي الذي وصلنا إليه، وبقينا نتعثر “كالذي يتخبطه الشيطان من المس” كما وصفه القرآن الكريم.
لأننا في القاع نقلق ونتضايق ثم ننهض ونحاول الخروج من هذا القاع، بعضنا يرى المخرج بالتمرد على الحاكم، وبعضنا يرى أبعد من ذلك بالتمرد على الله، واتباع طريق الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه الذي قتل الله، والبحث عن القوة بعيداً عن الخضوع لله، الذي قال لنابليون إنه “مع صاحب المدفع الأكبر”، وبعضنا يرى بداية المضحك في التمرد على “العقل العربي” سياسياً وثقافياً، والتمرد على تراث القبيلة، وتقاليد عبس وذبيان وبكر وتغلب، وعقلية قريش، وصراعات الهاشميين والأمويين، والسنة والشيعة، وبعضنا يرى المخرج من هذا النعش بالبحث عن الذات، عن المعنى، عن معنى وجودنا، عن معنى حياتنا، عن معنى الوجود.
وهناك فئة أخرى ابتعدت عن كل ذلك، واستسلمت لمصيرها، وقبلت القاع مصيرها، ورأت أهمية عدم إهدار طاقتها في محاولات يائسة للخروج من القاع، وحاولت التعايش مع الألم بتناول بعض المهدئات التي تطورت إلى تناول الأفيون والكبتاجون وأنواع من المخدرات الروحية والفكرية التي تساعدها على تحمل الواقع الذي يعود ثقيلاً وكثيفاً إلى روحها وعقلها وقلبها ومشاعرها وضميرها بعد زوال تأثير “النشوة” الملعونة.
كنا بحاجة إلى حدث عظيم، وشغف جديد، ونوافذ أخرى على الأفق، غير هذه الثقوب السوداء المفتوحة على أعماق الظلام التي تعيش فيها أجيال، تتغذى على الوهم، وتعيش حالة من الإدمان على هذا الألم العظيم الذي عاشه أجدادنا في العام 1948، وعاشه آباؤنا في العام 1967، وعاشناه بجرعات قاتلة في الأعوام 1982، 1990، 2003، 2006، 2011، والجرعات التي تلتها والتي أثقلت ضمائرنا وأرواحنا، دون أن نستطيع الإفلات من عواقبها.
إنها مسيرة طويلة من المعاناة، مثل الطريق الجبلي الدموي الذي دحرج فيه سيزيف صخرته نحو القمة. وحين اقترب منها انزلقت الصخرة من بين يديه إلى القاع. ثم نزل ليلتقطها من جديد، ثم صعد من جديد، فانزلقت الصخرة من جديد، ونزل من جديد، على طريق من المعاناة يبدو أنه لا نهاية له.
جاء السابع من أكتوبر، محاولة أخرى للخروج من الشرنقة.
وجاء السابع من أكتوبر ليشكل محاولة أخرى للخروج من الشرنقة، للخروج من التوابيت السياسية والثقافية والحضارية والروحية والفكرية والمادية التي لا تعد ولا تحصى، مجموعة من الشباب الذين ضاق بهم الحال خلف جدران “السجن الكبير” الذي ظلوا فيه سنوات طويلة، ومع طول مدة السجن تعلموا الصبر والسكينة والهدوء، وابتكروا من السجن أدوات لهدم الجدار والاعتداء على السجان.
لقد كنا نحن خارج السجن نعيش في قاع الزمن، أما الذين داخل سجن غزة فقد كانوا يبدون وكأنهم جلسوا على قمة الزمن، وتطلعوا إلى أروقة رأس العالم البعيدة، وانطلقوا يخاطرون بحياتهم من أجل إخراجنا من القاع العميق، قبل أن يخرجوا من السجن الكبير. وكان هناك فرق كبير بينهم وبين الذين يرددون مع نابليون أن “الله مع صاحب المدفع الكبير”، لأننا سمعناهم يرددون آية من القرآن تقول “إن الله مع الصابرين”.
إنها بداية الطريق في البحث عن المعنى، التحول من مقولة نابليون: «الله مع صاحب المدفع الكبير» إلى مقولة الله: «الله مع الصابرين». لم يكن نابليون نبياً حتى يحق له الحديث عن الله، بل الأنبياء وحدهم هم من يحق لهم أن يقولوا من يكون الله معه ومن ليس معه. ولو كان نابليون نبياً لما قال تلك المقولة الحقيرة، ولو كان صادقاً فيها لما رأيناه مهزوماً ومات مذلولاً، رغم كل المدافع الكبيرة التي كان يمتلكها.
إن أعظم خسارة نتعرض لها في العصور الأخيرة هي خسارة المعنى، فحين يضيع المعنى في نفوسنا فلن نجده في كل اللغات التي نحاول في قواميسنا البحث عن معنانا المفقود، فخسارة المعنى هي خسارة التاريخ والحاضر، خسارة الوطن والمأوى، خسارة الثقافة والهوية، خسارة القيم والدين، ولذلك فليس من الغريب أن نجد الكثير من أهل “السجن الكبير” ينظرون إلينا بوجوه راضية، رغم أن إسرائيل صبت أهوال يوم القيامة على أهل السجن.
ولعل صمود هؤلاء الناس في سجنهم ـ رغم هذه الأهوال ـ يرجع إلى كونهم أناساً متدينين يؤمنون بأهوال يوم القيامة، ويعيشون خوفاً من هذه الأهوال، وتنمو في نفوسهم القدرة على مواجهة أهوال المحرقة الإسرائيلية ضدهم، على أمل النجاة من أهوال يوم القيامة.
أولئك الذين يتمسكون بالجمر، بالدين، بالوطن، بالقيم،
هؤلاء الناس الذين يتمسكون بالجمر، بالدين، بالوطن، بالقيم، هؤلاء الناس الذين يتحدثون لغة غير لغتنا، ويقولون أشياء لا نقرأها إلا في كتب التاريخ، ويفكرون بطريقة مدهشة تصدم أجيالنا التي انحدرت عبر الزمن إلى هذه الهاوية من الإذلال والدهشة والانحطاط والتشتت والارتباك والإدمان.
لقد أسقطوا بالفعل الكثير من الأقوال العظيمة والفلسفات والأفكار والفرضيات، ليس أقلها “الله مع صاحب المدفع الكبير”، بل أسقطوا فكرة المدفع “الذي لا يقهر” و”المدفع الأكثر أخلاقية في العالم”، وأسقطوا فكرة “الإرهاب الإسلامي” و”المقاومة العبثية” و”الشرق الأوسط الجديد”، وأسقطوا أكذوبة الحلول السلمية التفاوضية ووهم “التعايش مع العدو”، وأعادوا احترام المقاومة والعروبة والإسلام، وأعادوا تعريف الإرهاب.
لقد دافعوا عن المعاني الحقيقية للكلمات، بعيداً عن تزوير اللغة وبهرج الكلام، وأسقطوا أقنعة النفاق عن وجه هذا العالم، وضربوا الإعلام العالمي، أو “الدجال الأعور” في عينه، وأسقطوا ـ وهذا هو المهم ـ الكثيرين ممن يعيشون في قاع الزمن، في قاع العالم، ويقتاتون بأنواع من الأفيون الفكري والروحي يحاولون من خلالها الجلوس على قمة الشهوة، بينما ينزلقون بها إلى أدنى الأعماق.
“ولله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم”
الله أكبر.
القدس العربي
Discussion about this post