تقاعد الأمريكي لورانس ديفيدسون من تدريس التاريخ في جامعة ويست تشيستر بولاية بنسلفانيا؛ لكن لحسن حظ أولئك الذين يبحثون عن أنماط انتقاد أعمق للسياسات الخارجية الأمريكية واستراتيجيات الإمبريالية الحديثة والمعاصرة، فإنه لم يتوقف عن تسليط الضوء على ما هو خفي، أكثر مما هو ظاهر ومعلن، من فظائع وكوارث وجرائم حرب، والإبادة الجماعية. وربما يكون من الصحيح القول إن الأبحاث الأكثر دقة حول تورط الديمقراطيات الغربية بشكل عام، والولايات المتحدة بشكل خاص، تدين للرجل بأعمال رائعة مثل “فلسطين أمريكا: التصورات الشعبية والرسمية من بلفور إلى دولة الدولة الإسرائيلية”. ” 2001؛ شركة يونايتد فورين بوليسي: خصخصة المصلحة الوطنية الأمريكية، 2009؛ و”الإبادة الثقافية” 2012.
لأنها تهتم، بشكل أكثر تخصصاً، بشؤون الشرق الأوسط عموماً والقضية الفلسطينية خصوصاً؛ إن متابعته لحرب الإبادة الإسرائيلية الحالية ضد قطاع غزة غالبا ما تتخذ منهجية حميدة تماما، حيث تضع جرائم الاحتلال ضمن سياقات أوسع تشير إلى الولايات المتحدة باعتبارها الرأس والقوة العالمية داخل الكتلة الإمبريالية والأطلسية الأوسع. . ومن أحدث مساهماته في هذا المجال مقالة شاملة نشرها مؤخراً موقع Counterpunch الأمريكي، تناولت سوابق تاريخية لتورط الولايات المتحدة أو تواطؤها في جرائم الحرب الجماعية والتطهير العرقي. إن سلوك الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن ليس سوى أحدث مثال في ملف غني. هذا المثال الأخير لا يغير منطق أن سنة من إعادة الانتخاب/أو الفشل تنتظر سيد البيت الأبيض، أو أن خطابه حول توفير الاحتياجات الإنسانية لشعب غزة ليس سوى أكاذيب فضحها وإصرار إدارته على رفض وقف إطلاق النار، والامتناع عن ممارسة ضغوط جدية وفعالة على الرئيس. حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو.
ومن الأمثلة السابقة، هناك أندرو جاكسون، الرئيس الأميركي السابع، الذي اعتبر أن «الاندماج» البطيء للشعوب الأصلية («الهنود الحمر» بحسب الوصف اليانكي) في «المجتمع الأبيض» يشكل عائقاً أمام «التقدم». ” وفي أواخر عشرينيات القرن التاسع عشر، أشرف على خطة تطهير شاملة شرق نهر المسيسيبي، وأجبر حوالي 800 ألف من هؤلاء على التحرك غربًا بقوة الجيش الأمريكي، مما أدى إلى مقتل الكثيرين أثناء العملية القسرية. لقد حفظ التاريخ عبارة جاكسون الشهيرة: “أي رجل صالح قد يفضل بلداً تغطيه الغابات وحفنة من الآلاف من المتوحشين، على جمهوريتنا الشاسعة الجبارة، المليئة بالمدن والبلدات والمزارع الفاخرة، والتي يسكنها 120 مليون شخص سعيد؟”
والمثال الثاني هو بطله وودرو ويلسون، الرئيس الثامن والعشرين، الذي يحب الأدب الليبرالي الأمريكي أن يطلق عليه لقب “نبي” الحريات العامة وحقوق الإنسان. لقد حاول إعادة الولايات المتحدة عقودا من الزمن إلى الوراء، من خلال فرض الفصل العنصري في أجهزة الدولة، والبيروقراطية، والجيش، مباشرة بعد توليه منصبه في عام 1913. ورغم أن أميركا خلال فترة رئاسته كانت متورطة في الحرب العالمية الأولى، وكانت في حاجة الجنود من كل عرق ولون، لم يخفي كراهيته الشديدة لـ«الملونين» بطريقة كانت تلدغ الأنفوف بالروائح العنصرية.
وينقل ديفيدسون عن الصحفي (الأبيض) والناشط في مجال حقوق الإنسان أوزوالد فيلارد أن الولايات المتحدة تحولت في عهد ويلسون إلى جهاز ضخم مسعور لا تهتم مؤسساته إلا “بوصم الملونين بوصمة الجذام التعسفي، وتصنيفهم على أنهم حاملون للأمراض الجسدية”. والعدوى الأخلاقية وعدم الأهلية لدخول المجتمع.
والمثال الثالث قدمه ليندون جونسون، الرئيس السادس والثلاثون خلال حرب الأيام الستة، فيما يتعلق بالهجوم الإسرائيلي على السفينة الأمريكية يو إس إس ليبرتي، بالقرب من شواطئ غزة، في 8 يونيو/حزيران، مما أسفر عن مقتل 34 بحاراً أمريكياً وإصابة 173 بحاراً أمريكياً كانوا على متنها. وعندما اعتبر جونسون أن أمن دولة الاحتلال الإسرائيلي يفوق سلامة السفينة وطاقمها، أمر بسحب المقاتلات الأمريكية التي كانت تحمي السفينة. أكثر من ذلك، وللتأكيد أكثر على أن جريمة الحرب هذه، التي استهدفت هذه المرة الأميركيين وليس أفراد الجنسيات الأجنبية الأخرى، لا تؤثر بأي شكل من الأشكال على علاقة واشنطن بدولة الاحتلال. وسارع الرئيس الأميركي إلى قبول «اعتذار» تل أبيب، مبرراً الحادثة بالخطأ في تحديد الهدف. وللذهاب أبعد من ذلك، أمر جونسون الأدميرال إسحاق كيد، رئيس لجنة التحقيق في الحادثة، بقبول مبررات الاحتلال؛ كما أمر بأن يُطلب من البحارة الناجين التزام الصمت والامتناع عن وصف الهجوم، تحت طائلة إحالتهم إلى المحاكم العسكرية.
والأمثلة الأخرى في العقود الأخيرة كثيرة، منها جورج بوش الأب، وبيل كلينتون، وبوش الابن، وباراك أوباما، ودونالد ترامب، وبايدن الحالي. بل من النادر أن يُستبعد منهم رئيس أميركي، سواء كان ديمقراطياً أو جمهورياً، وفي ولاية أولى أو ثانية. ولا يتجاهل الاستنتاج الذي توصل إليه ديفيدسون حقيقة مفادها أن كل الرؤساء تقريباً حريصون على إظهار الالتزام بالقانون الدولي، وحقوق الإنسان، ومعاهدات الحرب، وإدانة الإبادة الجماعية، أو التطهير العرقي، أو جرائم الحرب المختلفة شفهياً. والمفارقة الصارخة، في كل حالة انتهاك تتعلق بدولة الاحتلال، هي أن الدبلوماسية الأمريكية لا تتردد في خداع العقول من أجل حماية الاحتلال من أي مساءلة أو مساءلة. بل تلجأ أيضاً إلى التغطية على أوضح وأفظع الانتهاكات وهمجية في مجلس الأمن الدولي والكونغرس والمحافل الدولية من جهة، كما تواصل مد آلة الإبادة الحربية الإسرائيلية بالسلاح والذخائر والمال. ..
وفي استكشاف إطار آخر للعلاقات الأمريكية الإسرائيلية، والتي هي بالطبع متنوعة بقدر ما تقوم على ركائز رئيسية منيعة للتغيير الجذري؛ وقد يكون من المهم، والمضحك أيضاً، أن نتذكر حادثة تعود إلى ربيع عام 2010، خلال زيارة قام بها بايدن، نائب الرئيس الأميركي آنذاك، إلى دولة الاحتلال. سواء تعمد نتنياهو، وهو رئيس حكومة الاحتلال، أو لم يهتم على الإطلاق بإقامة الاتصال؛ وفوجئ بايدن بقرار الحكومة الإسرائيلية بناء 1600 مستوطنة جديدة. فغضب وأبلغ الأخير (خلال جلسة مغلقة مع نتنياهو طبعا) أن قرارات كهذه «بدأت تأخذ طابعا خطيرا بالنسبة لنا». إن ما تفعلونه هنا يقوض أمن قواتنا المقاتلة في العراق وأفغانستان وباكستان. وهذا يشكل تهديدا لنا وللسلام في المنطقة”، بحسب رواية الصحفي الإسرائيلي شمعون شيفر في يديعوت أحرونوت.
من القراءة الأولى للحادثة، ثمة ما في «غضب» بايدن يشير إلى قلقه على أمن القوات الأميركية المنتشرة هنا وهناك في الشرق الأوسط. قراءة ثانية تعيد الغضب إلى مثال الرئيس جونسون الذي فضل أمن دولة الاحتلال على الدم الأميركي الذي سال على ظهر سفينة ليبرتي بالصواريخ الإسرائيلية. أما القراءة الثالثة، التي ربما تكون الأكثر انسجاماً مع واقع الوضع، فيمكن استخلاصها من حادثة تكميلية، خلال الشهر نفسه من ذلك العام. كان الجنرال ديفيد بتريوس، القائد السابق للقوات الأمريكية وقوات حلف شمال الأطلسي في أفغانستان والقيادة المركزية، يقدم أمام لجنة القوات المسلحة في الكونجرس شهادة مكتوبة مكونة من 56 صفحة، قال فيها في إحدى فقراتها: “إن إن المواجهات الدائمة بين إسرائيل وبعض جيرانها تشكل تحديات ملموسة لقدراتنا في رعاية… مصالحنا. ويثير الصراع مشاعر العداء تجاه أمريكا، بسبب تصور تفضيل الولايات المتحدة لإسرائيل. “إن الغضب العربي الناجم عن القضية الفلسطينية يحد من قوة وعمق الشراكات الأمريكية مع حكومات وشعوب المنطقة، ويضعف شرعية الأنظمة المعتدلة في العالم العربي”.
وسمعت الجنرال لو يدعو إلى الحياة طبعاً، لأن ما يوحد أميركا والاحتلال هو أكثر من مجرد «علاقة عاطفية» كما أسماها جورج دبليو بوش. بول ذات يوم؛ إن جرائم الإبادة الجماعية، سواء تم ارتكابها أو المشاركة فيها أو دعمها، هي أدلة راسخة.
(القدس العربي)
Discussion about this post