(أولاً) المتابعة الخاصة:
في 15 نوفمبر 2003، خرج الكاتب والروائي المغربي محمد شكري، المعروف بروايته المشهورة عالميًا “الخبز العاري”، والتي ترجمت إلى أكثر من 39 لغة والتي وصفها الكاتب المسرحي تينيسي ويليامز بأنها “وثيقة حقيقية للإنسانية” اليأس، تحطمت في “تأثيرها”.
البدايات
ولد محمد شكري في 15 يوليو 1935 ببني شاكر بإقليم الناظور شمال المغرب. عاش طفولة صعبة وقاسية في قريته الواقعة في سلسلة جبال الريف، ثم في مدينة طنجة التي فر إليها مع أسرته الفقيرة عام 1942.
وصل شكري إلى مدينة طنجة ولم يكن يتحدث العربية بعد، لأن لغته الأم هي اللغة الأمازيغية (تريفيت)، واضطر إلى الفرار من والده الذي كان يعامله ومع إخوته بقسوة، وبقي بلا مأوى لمدة طويلة. فترة من حياته، يبحث عن مكان يؤويه ويحميه من حياة الشارع وما يحتويه من مخاطر. والخطايا.
توفي والده وهو صغير، وعاش مع والدته وشقيقيه في فقر مدقع.
عمل محمد شكري فتى مقهى وهو دون العاشرة من عمره، ثم عمل حمالاً، وبائع صحف، وماسح أحذية، وبعد ذلك عمل بائع سجائر مهربة.
انتقلت عائلته بعد ذلك إلى مدينة تطوان، لكنه سرعان ما عاد وحيدا إلى طنجة، ولم يتعلم شكري القراءة والكتابة إلا عندما بلغ العشرين من عمره.
وفي عام 1955، قرر الرحيل بعيداً عن العالم السفلي وواقع التسكع والتهريب والسجون التي كان غارقاً فيها. دخل المدرسة بمدينة العرائش، وتخرج منها بعد ذلك ليعمل في مجال التعليم.
وفي عام 1966، نُشرت قصته عرب تايمى «عنف على الشاطئ» في مجلة الآداب اللبنانية، وبعدها توالت كتاباته في الظهور.
عمل محمد شكري في المجال الإذاعي من خلال البرامج الثقافية التي أعدها وقدمها في إذاعة طنجة، خاصة في برنامجه الشهير “شكري يتكلم”.
وعاش شكري في طنجة فترة طويلة ولم يغادرها إلا لفترات قصيرة قبل أن يتوفى يوم 15 نوفمبر 2003 متأثرا بمرض السرطان.
خبز حافي القدمين
رواية الخبز العاري هي أشهر روايات محمد شكري، وأكثرها إثارة للجدل. كتبه بالعربية عام 1972، وترجمه إلى الإنجليزية بول بولز عام 1973، وترجمه إلى الفرنسية الطاهر بن جلون عام 1981. ولم يُنشر بالعربية إلا عام 1982، بسبب الجدل الذي أثاره بسبب جرأته غير العادية. .
حققت الرواية نجاحا كبيرا، وترجمت إلى 39 لغة، وتعتبر من أهم أعمال الأدب المغربي المعاصر.
هذه الرواية جاءت إلى الوجود بالصدفة. في أحد الأيام، التقى شكري بناشر إنجليزي في طنجة كان يشتري قصصًا من الرواة الشفهيين ويبحث عما قد يروق لقرائه الأوروبيين.
تعتبر هذه الرواية سيرة ذاتية للكاتب، حيث تحكي قصة نشأته في ظل ظروف قاسية داخل مجتمع يعاني من الفقر والتهميش.
تبدأ القصة بتفاصيل مؤلمة عن معاناة شكري مع والده العنيف، حيث شهد الكاتب مقتل شقيقه الأصغر على يد والده، بالإضافة إلى سوء المعاملة التي تعرضت لها الأسرة بشكل عام.
في هذه الظروف، نشأ شكري في شوارع طنجة، محاولا الهروب من الجوع والتشرد من خلال البحث عن أي وسيلة لتلبية احتياجاته الأساسية.
الرواية ليست مجرد سرد معاناة، بل هي استكشاف لعمق النفس الإنسانية في ظل الصعوبات، ويستخدم شكري أسلوبًا صادقًا وواقعيًا في وصف حياته، ولا يتردد في الكشف عن تفاصيل تجاربه الشخصية، والتي تشمل الجوع والتشرد والانحراف، بالإضافة إلى لحظات الضعف والاستغلال.
ويظهر الكاتب شجاعته في سرد أحداث حياته كما هي، دون تجميل أو تهذيب، وهذا ما جعل هذه الرواية مثيرة للجدل.
وكانت لغته بسيطة ومباشرة، مما جعل الرواية قريبة من القارئ وأتاح له فهم البيئة التي عاش فيها الكاتب بكل تفاصيلها. ولم يسعى شكري إلى تخفيف الواقع القاسي، بل واجه القارئ بواقع معاناته، وهو ما جعل الرواية جريئة وصادمة في بعض الأحيان.
ويرى بعض النقاد أن أسلوب شكري في كتابة الرواية أقرب إلى أسلوب السيرة الذاتية منه إلى الأدب الروائي التقليدي، إذ نرى بوضوح الشخصية الشخصية والصادقة في سرد الأحداث.
تمثل هذه الرواية نموذجا من الأدب الواقعي الذي لم يكن شائعا في الأدب العربي، حيث كسر شكري القيود الاجتماعية وقدم صورة قاسية وصريحة عن حياة الفقراء والمهمشين.
تعتبر الرواية شهادة على أوضاع الطبقة المضطهدة في المجتمع المغربي خلال فترة ما قبل الاستقلال، حيث تناولت دون تردد قضايا مثل الجوع والفقر والعنف والانحراف الأخلاقي.
ولأنها تناولت مواضيع حساسة، واجهت الرواية حظرا في عدد من الدول العربية لفترة طويلة، لكنها في الوقت نفسه نالت شهرة عالمية وترجمت إلى عدة لغات.
ويبقى عملاً أدبياً فريداً في الأدب العربي، ليس لأنه يعكس تجربة حياة كاتب عاش ظروفاً صعبة فحسب، بل لأنه يطرح أسئلة عميقة حول قسوة الحياة ومعنى الصراع من أجل البقاء.
ومن خلال أسلوبها الصادق وموضوعها الجريء، جعلت من محمد شكري رمزا للأدب الواقعي الذي يتطرق إلى قضايا الفئات المهمشة بصراحة نادرة.
وكان شكري أكثر ما يفتخر بها، إذ أن الرواية هي التي حققت شهرته وثروته أيضاً. لكنه سرعان ما أدرك أن هذه الشهرة سلاح ذو حدين. وبالإضافة إلى الشهرة والمكانة الأدبية العالية التي حققها الكتاب لشكري عربيا ودوليا، فقد كان حجابا كاد أن يخفي إبداعات شكري الأخرى.
أسلوب واقعي وجريء
واعتمد محمد شكري في كتاباته على الأسلوب الواقعي الذي لم يكن شائعا كثيرا في الأدب العربي، إذ كان واقعيا في نقل التفاصيل.
نصوصه مليئة بصور الأشياء اليومية وتفاصيلها الواقعية. ترتبط شخصيات الكاتب وفضاءات نصوصه ارتباطًا وثيقًا بالحياة اليومية.
يعتبر شكري العالم الهامشي أو العالم السفلي قضية للكتابة، حيث تكشف كتاباته للقارئ عوالم يسكت عنها، مثل عالم العاهرات والسكارى والاختلاط والأزقة الهامشية الفقيرة.
وهذا الأسلوب الواقعي جعله يشبه الكتاب الواقعيين الأدبيين العالميين مثل تشارلز ديكنز وفيودور دوستويفسكي، حيث استخدم الأدب كمرآة تعكس قسوة الحياة في المجتمعات الهامشية.
ولم يكن شكري متصالحا مع المجتمع المحافظ الذي يعيش فيه، واختار أن يعبر عن نفسه بجرأة ولا يخلو من انتقادات للمجتمع المغربي والعربي ككل. تطرقت كتاباته إلى موضوعات “محرمة” في الكتابة الأدبية العربية، خاصة في روايته “خبز الحافي”.
كما تحتل مدينة طنجة مساحة مهمة في كتاباته، إذ كتب عن وجوهها المنسية، وظلامها، وعالمها الهامشي الذي كان ينتمي إليه يوما ما.
محمد شكري لم يتزوج طوال حياته، ومن أقواله: “لكي أصبح أبًا لابن، يجب أن أتزوج. لقد امتنعت عن الزواج لأنني أخشى أن أمارس نفس الطغيان والظلم الذي مورس علي. ولذلك أخشى أن أنجب طفلاً، لأنني لا أثق بنفسي”.
التراث الأدبي لمحمد شكري
وإلى جانب “الخبز العاري”، كتب محمد شكري العديد من الأعمال الأخرى التي واصلت رحلة التعريف بتجربته الحياتية ومواقفه الاجتماعية، حيث واصل تسليط الضوء على قضايا الفقر والتهميش بأسلوبه الصادق.
وبمرور الوقت، أصبح شكري أحد أبرز الأصوات الأدبية في المغرب والعالم العربي، تاركا إرثا قويا من الأعمال التي لا تزال تحظى باهتمام واسع من القراء والنقاد. واعتبره البعض من أبرز كتاب القرن العشرين في الوطن العربي، حيث كسر الحواجز الاجتماعية وكشف جوانب غير مألوفة. من الحياة الحقيقية.
ورغم الشعبية التي حظيت بها أعمال شكري، إلا أنها ظلت محل جدل مستمر بسبب أسلوبه الصريح في التعبير عن واقع مرير. ويرى البعض أن هذا الجدل يعكس مدى تأثيره العميق على الأدب والمجتمع، حيث كانت أعماله تثير دائما تساؤلات حول الواقع الاجتماعي ومفاهيم الطبقة والفقر.
وإلى جانب الخبز العاري، من أبرز مؤلفاته السيرة الذاتية (3 أجزاء)، مجنون الورد، الخيمة، السوق الداخلي، الشيطان، مسرحية السعادة، إغراء الشحرور الأبيض، البحث عن الزمن الضائع. والذاكرة المشتتة، والليلة المقدسة، والبيت الكبير، والورد والرماد.
Discussion about this post