وبغض النظر عن الاختلافات بين معلقي غرامشي في فهم معنى الكتلة التاريخية – هل هي تحالف طبقات تحت هيمنة الحزب الشيوعي، أم أنها تشكيل جبهة سياسية تمثل البرجوازية أم البرجوازية الصغيرة في ظل “الهيمنة”؟ “للحزب الشيوعي – وبغض النظر عن الاختلافات الكبيرة بين المؤسسة الدينية الكاثوليكية التي تطورت لدى بعض كهنتها اللاتينيين مفهوم “لاهوت التحرير” وبين المؤسسات الدينية في الفضاء الإسلامي السني، شعارات الثورة التونسية ( العمل والحرية والكرامة الوطنية) بخلفيتها اليسارية ورهاناتها الاقتصادية والاجتماعية، ودخول «حركة النهضة» بقمعها ومرجعيتها الاحتجاجية «القيمية» إلى المجال السياسي الحقوقي، كل ذلك بشر – من الناحية النظرية – ميلاد جدل عام يقطع السجالات/السجلات السردية التي سيطرت على المجال العام في اللحظات الدستورية (بورقيبة) والتجمع (فترة حكم المخلوع بن علي).
ولا يخفى على أحد أن النظام الحاكم، بعد استقلاله الاسمي عن فرنسا، سيطر على الفضاء العام باستخدام آلات القمع الأيديولوجي والأمني، واحتكر عملية إنتاج الثروة الرمزية – أي «الحقيقة الجماعية» التي هي مقبولة ومسموح بتداولها ــ بالتوازي مع احتكار النظام الريعي الزبون للثروة المادية. ما يعني أن ترك «الجمهورية الأولى» في لحظاتها الدستورية والتجمعية يتطلب تغيير «النموذج السياسي» برهاناته ومفاهيمه ومنطقه القائم على حكم الأقلية (بنية سلطوية إقليمية عميلية تشرف على إدارة مرحلة الحكم). الاستعمار غير المباشر، من خلال تكريس واقع التخلف والتبعية باستخدام استعارة وطنية). التحديث الزائف).
استئناف التفكير بـ«الكتلة التاريخية» لم يعني انتهاء الخلافات الأيديولوجية، ولا انحلال تناقضات المرجعية مع «الإسلاميين». بل كل ما كان يعنيه هو تجاوز منطق «الصراع الوجودي» وما يصاحبه من ملحقة واقعية لنظام الحكم (الرجعي البرجوازي) بمنطق التناقض الأساسي والتناقض الثانوي.
لكن النخب التونسية، يميناً ويساراً، كسرت أفق هذا التوقع «المشروع» ودفعت بالكتلة التاريخية واللاهوت التحرري، باعتبارهما أطروحتين قادرتين على إثراء النقاش التأسيسي لبناء المواطنة المشتركة، إلى دائرة ما لا يمكن تصوره. إنه «خيار النخبة» الذي يتجاوز المجال السياسي البحت. سنحاول في هذا المقال تقديم بعض عناصر الإجابة على الأسباب العميقة التي جعلت النخب التونسية تتواطأ – رغم كل اختلافاتها الأيديولوجية والسياسية – على إقصاء هاتين الأطروحتين من النقاش العام.
ورغم أن كل مكونات اليسار التونسي تقريبا قللت من طابع “الشيوعية”، فهل يرجع ذلك إلى أن “الشيوعية” أصبحت في عصر العولمة من “الألفاظ المذمومة”، كما قال الراحل عبد الوهاب وعلى حد تعبير المسيري، أو ما إذا كان هذا الاختيار السياسي نتيجة مراجعات فكرية حقيقية، فإن مركزية القضايا الاقتصادية والاجتماعية في الفكر اليساري، والرهان على بناء مواطنة مشتركة منفتحة على النقيض الأيديولوجي (أي الإسلاميين) ) تحت سقف الديمقراطية التمثيلية (وليس الديمقراطية الشعبية) جعل التفكير في «الكتلة التاريخية» وقت تأسيسها مشروعا، بل ومطلوبا.
ولماذا رفضت كافة مكونات اليسار هذا الخيار رغم انتمائه إلى التراث الماركسي؟ لماذا رفضت القوى اليسارية استئناف أطروحة جرامشي وتونيسها؟ وتفسير هذا الخيار بحسب السياقات المختلفة – أي أن “الكتلة التاريخية” في فكر غرامشي كانت خيارا تكتيكيا لإسقاط “الفاشية” ولم تكن خيارا استراتيجيا للحكم بالرجعية الدينية أو بالرجعية البرجوازية – هو تفسير محتمل. لكن النداء أو “التونيس” كان يعني القدرة على توظيف مفهوم “الكتلة التاريخية” للقيام بدور مختلف. وهو في تقديرنا دور «تقدمي» بالضرورة لأنه يقطع التراث الاستبدادي ويؤسس لنصاب سياسي «ديمقراطي» جديد.
استئناف التفكير بـ«الكتلة التاريخية» لم يعني انتهاء الخلافات الأيديولوجية، ولا انحلال تناقضات المرجعية مع «الإسلاميين». بل كل ما كان يعنيه هو تجاوز منطق «الصراع الوجودي» وما يصاحبه من ملحقة واقعية لنظام الحكم (الرجعي البرجوازي) بمنطق التناقض الأساسي والتناقض الثانوي. إن إعادة تفعيل معظم القوى اليسارية لمنطق «التناقض الأساسي والتناقض الثانوي» كان عائقاً نظرياً أساسياً يحول دون النضال ضد «الإسلاميين» (أي ممثلي بنية «الاستبداد الديني»، بحسب اليساري. الاقتراح) من الخروج من دائرة التناقض ومفردات النفي وروح الاستئصال بشقيها الصلب واللين. كان هذا المنطق هو النهج الملكي في تحالف اليسار بعد الثورة مع “الرجعية البرجوازية” (ورثة النظام القديم أو ممثلي بنية السلطة العلمانية).
وإذا كان جمود القوى اليسارية قد تجلى في تهميش مفهوم الكتلة التاريخية، وتحويل الصراع إلى مدارات «ثقافية»، تصب مخرجاتها في خزائن «الرجعية البرجوازية»، فإن حركة النهضة لم تكن في وضع أفضل من حيث الجمود الفكري والخضوع للنظام القديم منذ مرحلة التأسيس، أي قبل ذلك. الدخول في مرحلة «التوافق» مع ورثة ذلك النظام
وفي غياب أساس نظري لترسيخ مفهوم جديد في «تونس»، «الكتلة التاريخية»، لم يكن أمام اليسار «الثوري» إلا التحول إلى جسم وظيفي في السردية الاستبدادية التونسية، أو في سردية «الدفاع عن “النمط المجتمعي التونسي” وما تخفيه من خيارات اقتصادية واجتماعية وقيمية. “البرجوازية”.
وإذا كان جمود القوى اليسارية قد تجلى في تهميش مفهوم الكتلة التاريخية، وتحويل الصراع إلى مدارات «ثقافية»، تصب مخرجاتها في خزائن «الرجعية البرجوازية»، فإن حركة النهضة لم تكن في وضع أفضل من حيث الجمود الفكري والخضوع للنظام القديم منذ مرحلة التأسيس، أي قبل ذلك. الدخول في مرحلة «التوافق» مع ورثة ذلك النظام.
وفي مواجهة ما تفرضه القاعدة الاجتماعية المهمشة -قطاعيا وجهويا- على حركة النهضة، وفي مواجهة التوقعات المشروعة لقاعدتها ولكل المواطنين (على مستوى الحاجات الأساسية حسب هرم ماسلو)، سقطت النهضة في يتعارض فخ الهوية مع القوى «الليكانية» ونواتها اليسارية، وبالتالي ساهم -سواء بمنطق الفعل أو رد الفعل- في حرف الصراع الاجتماعي عن مداراته الحقيقية، وفي تضخيم الدور «التحكيمي» للصلب. جوهر النظام القديم. ولمواجهة التحالف اليساري-الجماعي الجديد، اختارت النهضة منافسة اليسار في خدمة النظام القديم. ولم يكن منطق التوافق – وهو منطق إدارة المرحلة التأسيسية نفسها – إلا مظهراً لهذا الخيار الاستراتيجي.
قد يرى البعض أنه من العبث أن نطالب من اختار الاتفاق مع النظام بشروطه، ويعتبر أن تناقضه الأساسي هو مع اليسار وتصريحاته «الاستئصالية»، أن يقترح على نفسه بناء «نظام إسلامي» “لاهوت التحرير” الذي يحاكي لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية ويتبناه عمليا وليس بلاغيا. – شعار “الخيار التفضيلي للفقراء”. ونحن لا ننكر صحة هذا الاعتراض، ولكننا نرى أن ما يؤسس له -أي التحالف مع ورثة النظام القديم بمنطق «الضعف الحداثي» بعد رحيل ريح «التفوق التوحيدي»- هو نتيجة غياب التفكير في استمرار الحاجة إلى التصريحات اليسارية وإمكانية “أسلمتها” – أو استخدامها في بناء المواطن العادي – كما فعل لاهوت التحرير من خلال “تعميد” فئات الصراع الطبقي.
إن فشل التحول الديمقراطي في تونس لا يرجع فقط إلى الطبيعة غير الوطنية وغير الشعبية لخياراتها، والتي كان النواة الصلبة للنظام القديم المستفيد الأكبر منها. بل يعود ذلك بالأساس إلى «قمع» بعض الخيارات الجماعية التي كانت ممكنة منذ لحظة تأسيسها.
نجح اليسار والنخب الليبرالية الفرانكوفونية بعد الثورة في دفع حركة النهضة إلى تبني منطق «مشبوه» لمعنى «تونس»، أي معنى يقوم على قبول الأساطير التأسيسية للدولة القومية باعتبارها “مقدسة تدرس” ولا تقبل المساءلة وإعادة التفاوض الجماعي.
وإذا كان اليسار قد تونسن نفسه – منذ عهد المخلوع – بحيث جعله مجرد ملحق سياسي أو قانوني أو مدني أو نقابي في خدمة النواة الصلبة للنظام الاستعماري الداخلي، فإن النهضة باستسلامها للابتزاز «الحداثي» من جهة، ومع عدم قدرته من جهة أخرى على تطوير مقولاته الخطابية وخياراته الفقهية – باستئناف النظر في التراث، وكذلك بالانفتاح على التراث العالمي – فقد تم تونسنته في وهو ما جعلها مجرد وكيل “مؤقت” لنظام الاستعمار غير المباشر أو نظام الإذلال المزدوج: أولاً، إذلال السلطة خارجياً بما يفقدها عناصر السيادة تحت وهم “الاستقلال”. “؛ ثانياً، تقوم السلطة بإذلال المواطنين بشكل يفقدهم مقومات المواطنة والحياة الكريمة تحت وهم “الانتقال الديمقراطي”.
قد لا نكون مخطئين إذا قلنا إن فشل التحول الديمقراطي في تونس لا يرجع فقط إلى الطبيعة غير الوطنية وغير الشعبية لخياراتها، والتي كان النواة الصلبة للنظام القديم المستفيد الأكبر منها. بل يعود ذلك بالأساس إلى «قمع» بعض الخيارات الجماعية التي كانت ممكنة منذ لحظة تأسيسها. وهي خيارات قد يكون غيابها أحد أهم الأسباب التي أفشلت التحول الديمقراطي، وحوّلت «الجمهورية الثانية» – بتأسيسها وانتقالها الديمقراطي وتصحيح مسارها – إلى استعارة هي في الواقع النواة الصلبة لـ “الجمهورية الثانية”. الجمهورية الأولى.”