إن الدول التي تحكم بالحديد والنار لا يمكنها أن تحتمل أهل العلم بعيدي النظر وذوي التأثير العميق، الذين يدخلون قلوب الناس دون استئذان، القادرين على قول لا دون خوف أو خوف، الذين يحملون ثقافة الأخوة الحقيقية. هؤلاء لا يحبون الطاغية في نهجهم وسلوكهم وتوجهاتهم، ولا حتى في صمتهم. يخاف صمتهم كما يخاف صوتهم.
إن الوجه الحقيقي للاستبداد يعتمد على قتل وسجن ونفي وتحييد كل من يستطيع أن يعكر صفو الطاغية وتفرده، أو يهز عرشه بكلمة الحق. وهذا يتطلب إزالة كل من يستطيع أن يزعج ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر، «وكل ما يرضي الله طبعاً».
ولذلك يحرص الطاغية دائمًا على إلباس ظلمه وطغيانه ثوب الشريعة، وتزيين باطله بالمصطلحات الفقهية، وتغطية طغيانه بآيات الكتاب المقدس والسنة النبوية المكذوبة والمفترية، صلى الله عليه وسلم، وأن يجملوا طغيانه بفتاوى العمائم الرخيصة التي باعوا دينهم من أجل دنيا أخرى.
ومن وسائل تأليه الطاغية نفسه، وتقديس نفسه، وإخضاع من حوله، إخضاع العبيد لخالقهم، والعمائم الوظيفية التي تتكلم باسم الدين، والألسنة الدينية التي تمارس الفجور الفكري. وقد أوضح ذلك عبد الرحمن الكواكبي إذ فصَّل طبيعة الطغيان فقال:
“ليس هناك طاغية سياسي لا يتخذ لنفسه صفة مقدسة يشترك فيها مع الله، أو تمنحه مكانة علاقة مع الله، ولا أقل من ذلك يتخذ ستار خدمة الدين الذي يساعده على ظلم الناس في العالم”. باسم الله، وعلى أقل تقدير يساعدون الطغيان بتقسيم الأمم إلى طوائف وطوائف متحاربة». يقاومون بعضهم بعضاً، فتضعف قوة الأمة وتختفي رائحتها، فيكون الجو مهيئاً للطغيان ليتفرخ ويتفرخ».
ولطالما حرص الطاغية في كل ظروفه على استخدام الدين لتمرير ظلمه، فبادر العمائم الموالون له بالقبض على الفقه والتشريع الإسلامي، ووضعوه في زنزانة السجن، وأخذ أقواله بالقوة تحت وطأة القانون. يعذب. بل أكثر من ذلك يجعلون التشريع خادماً للطاغية، وكم لوت هؤلاء العمائم ألسنتهم بآيات الله عز وجل. تحريف لخدمة الطاغية وجرائمه تبريراً وتشريعاً!
العمامة التي وقفت أمام سيد قطب علمته الشهادة قبل إعدامه، فقال لها: أموت في لا إله إلا الله، وأنت تأكلين بها الفتات على موائد الظالمين. ولا يختلف الأمر عن العمائم التي أعطت الفتوى للطاغية بـ«ضرب الحشود» وإباحة الدماء والأعراض باسم الإسلام. وكلهم يتذرعون بالمصطلحات الشرعية والفقهية ويلوون ألسنتهم بالكتاب ليقولوا هذا من عند الله وهذا من عند الله. يفعلون ذلك لمساعدة الظالم وتبرير أحكامه الجائرة.
ورغم أن ردود الفعل هي آخر ما يهم الطاغية عندما ينوي الإساءة إلى رجاله، إلا أن ردود الفعل الخاملة والباردة واللامبالية تغري الطاغية بالاستمرار في جريمته، وتعطيه حافزاً لمزيد من الأفعال التي لا يتوقعها العمائم الرخيصة. وقاحة الطاغية لتحقيقه.
يتعامل الطاغية مع رعيته بشكل عام ومع رجاله المقربين منه بشكل خاص، ومنهم أصحاب العمائم التي تباع في المزاد المنافق، وكأنهم مجموعة من الغوغاء، أو قطيع من الأغنام، أو فريق من الكلاب الذين يجب عليهم يتعرض للتوبيخ والإذلال والإذلال من وقت لآخر. بتوجيه الشتائم إليهم حتى لا يرفع أحد منهم رأسه، وحتى لا يظن أحد من أصحاب هذه العمائم أن روحهم ستكون منخفضة مثل مسح حذاء الطاغية؛ وهنا تواجه الرعية اختبارها المصيري كما قال الكواكبي:
“الطاغية يود أن يكون رعاياه مثل الغنم، يُعاملون ويُطيعون، ومثل الكلاب، خاضعين ومُتملّقين. ينبغي أن تكون الرعايا كالخيول، إذا خدمت خدمت، وإذا ضربت شرست. يجب أن يكونوا مثل الصقور، لا يمكن اللعب معهم ولا السيطرة عليهم طوال اللعبة، على عكس الكلاب التي لا فرق بالنسبة لها بين إطعامها أو حرمانها حتى من القدرة على الصيد. العظام.
نعم؛ يجب على الرعية أن تعرف موقفها؛ فهل خلقت خادمة لحاكمها، تطيعه عدلا أو ظالما، وهل خلقت ليحكمها كما يشاء، عدلا أو استكبارا؟ أم أنها أتت به ليخدمها ولم يستخدمها؟ الذات العاقلة تقيد وحش الطغيان بشدة دون إبقائه تحت سيطرته. لتأمن من ظلمه، فإن قام هزت زمامه، وإن كان قوياً قيدته».
ولكن عندما تهان العمائم الموالية للنظام، فإنهم لا يغضبون لأنفسهم، ناهيك عن غضبهم على دينهم الذي انسحبوا منه مثل بلعام بن بعورة وذريته في الفكر والسلوك، الذين الله تعالى فيهم. قال تعالى: “واتل عليهم قصة الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها واتبعه الشيطان إنه كان من الضالين * ولو شئنا لرفعنا” به، لكنه نزل إلى الأرض واتبع هواه. مثله كمثل الكلب إما تحمله أو يلهث أو تتركه يهيم ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون.
بل ترد على إهانتها بالمبالغة في تمجيد الطاغية، وشكره على إهانتها، وطلب المزيد من حكمته الطيبة، وكأن عبد الرحمن الكواكبي يصور لنا هذه العمائم كما تشكر الطاغية. لمكارمه التي لا تخلو من الإهانة لهم، كما يقول:
“إن عامة الناس هم قوة الطاغية وقوته. وله سلطان عليهم وعليهم. يأسرهم فيفرحون بقوته. يغتصب أموالهم ويمدحونه لأنه أنقذ حياتهم. ويذلهم ويمدحونه على نبله. ويغري بعضهم على بعض ويفتخرون بسياسته. فإذا أنفق عليهم قالوا إنه كريم، وإذا قتل بعضهم ولم يتصرف قالوا إنه رحيم. يقودهم إلى خطر الموت، لكنهم يطيعونه خوفًا من التوبيخ».
فماذا يريد الطاغية لتحقيق ساديته المتزايدة وسيادته السامية أكثر من هذه العمائم المذلة؟!
Discussion about this post