“هل تسخر مني؟!” هذا ما قاله الرئيس الأمريكي جو بايدن على حين غرة أثناء رده على أحد الصحفيين الذي سأله عما إذا كان قد اتصل بالرئيس السابق دونالد ترامب مؤخرا.
فإذا رأى بايدن في مجرد سؤال كهذا، من أميركي إلى رئيسه، استفزازاً يصل إلى حد الاستخفاف به شخصياً، فماذا يمكن قوله وبايدن نفسه وإدارته يستخفون بالعالم أجمع، وهو يكرر بلا كلل للمزيد أكثر من عام تعمل فيه واشنطن على وقف إطلاق النار وتحث إسرائيل على تجنب استهداف المدنيين؟ وإدخال المزيد من المساعدات الإنسانية والطبية إلى قطاع غزة؟!!
ماذا سيقول الفلسطينيون، ومعهم أحرار العالم، عندما يرون بايدن وإدارته بأكملها مدمنين على الكذب، منذ أكثر من عام، ويعرفون جيداً أنه كذب صريح، ومع ذلك يحاولون يخدعون الجميع وكأنهم في غاية السذاجة حتى يصدقوا كل ما يتحدثون عنه، وبنفس المفردات تقريبًا، دون… أدنى خجل أو تحفظ.
لقد وصل السيل إلى ذروته ولم يعد من الممكن اختيار الكلمات عند الحديث عن الموقف الأمريكي ومعظم الموقف الأوروبي (باستثناء بعض الدول التي تستحق التصفيق والدوائر الشبابية والناشطين الذين ما زالوا يتظاهرون حتى يومنا هذا). . هذا هو «العالم الحر المتحضر»، الذي ظل يقدم نفسه منذ عقود على أنه النموذج الوحيد والأسمى لأنبل قيم الإنسانية والحرية، إلى درجة أنه نصّب نفسه أستاذاً يحاضر لبقية العالم. .
لقد كشفت حرب الإبادة المستمرة في قطاع غزة منذ تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي هذا العالم كما لم يفعل أي حدث آخر من قبل، إلى حد حرمانه حتى من مجرد ورقة توت يغطي بها أعضائه التناسلية. يبدو عارياً ومكشوفاً بكل قبحه. ما ظهر منها و”وما تخفي صدورهم أكبر”. “.
ولم يعد هناك مجال، لا لواشنطن ولا لحلفائها وحلفاء إسرائيل في أوروبا وغيرها، لأي ادعاء في بلورة مواقف مما يجري حاليا في قطاع غزة، و”قاموس الألعاب البهلوانية” في التعبير الدبلوماسي قد استنفد كل شيء مفرداته القديمة والجديدة وأصبح غير قادر على قول أي شيء ذي معنى. أو دلالة، خاصة وأنهم جميعاً هم الذين يزودون إسرائيل بكل أنواع الأسلحة وكل الدعم المالي السخي الذي تحتاجه.
لقد تعطلت لغة الكلام بعد كل هذه الأشهر من العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة، حيث أدى في اليومين الماضيين إلى قصف المدنيين في مركز توزيع الإمدادات والمساعدات في مخيم جباليا، مما أدى إلى مقتل العشرات، فضلا عن مقتل العشرات. الوحشية التي فاقت كل تصور عندما تم حرق عشرات اللاجئين أحياء مع خيامهم في أحد الأديرة. البلح في محيط مستشفى شهداء الأقصى وفي منطقة صنفها الاحتلال نفسه “منطقة آمنة”!!
وارتكب الاحتلال 4 مجازر في يوم واحد، راح ضحيتها 62 شهيداً وجرح 220، إضافة إلى العشرات يومياً، ما رفع عدد الشهداء إلى أكثر من 42 ألفاً منذ 8 أكتوبر من العام الماضي.
“لقد انقطعت كل حبال الأمل، ولم يبق إلا أملنا في الله”. هذا ما قاله بالدموع على قناة الجزيرة منير البرج مدير عام وزارة الصحة في قطاع غزة. ومثله يمكن القول إن كل الحبال التي كانت تنتظر منعطفا سواء أمريكيا أو غربيا أو… دوليا لوقف حرب الإبادة الجماعية هناك انقطعت أيضا تماما، ولكل ذلك تداعيات خطيرة لا أحد يقدر الآن بشكل كامل.
انتظروا قريبا جيلا فلسطينيا جديدا لا يؤمن بالعدالة الدولية
انتظروا قريبا جيلا فلسطينيا جديدا يكفر بالعدالة الدولية وبكل ما يقال عن تسوية سلمية مع عدو ليس لوحشيته حدود. هذا الجيل ليس مستعداً للضحك على لحيته، أياً كان، بمفردات معسولة عن «حل الدولتين» وضرورة القبول بإسرائيل كدولة طبيعية في المنطقة. إنه جيل لن يقبل إلا باجتياح الاحتلال لأرضه مهما كلف الأمر، بعد كل ما عاشه في قطاع غزة، والذي يفوق رعبه ما رواه بكثير. والديه وأجداده من حروب سابقة منذ النكبة عام 1948.
انتظروا قريباً جيلاً عربياً جديداً لن يقتنع بما يسمى “المجتمع الدولي” الذي كان من المفترض أن يكون القانون الدولي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية لتسوية كافة النزاعات من خلال مؤسسات أنشئت لهذا الغرض، بدءاً من الأمم المتحدة، محوره الأساسي. إلى «محكمة العدل الدولية» إلى «المحكمة الجنائية الدولية». “يصبح من الواضح أن كل هذا تم وضعه فقط للرجل الأبيض العنصري، المسيحي واليهودي، وليس للآخرين الذين يُنظر إليهم على أنهم أقل قيمة منه بكثير. وكل هذا بدوره سيغذي أجواء الكراهية، أو حتى حرب حضارات شرسة، وهو ما يحذر منه بعض المفكرين والعقلاء في الغرب نفسه.
انتظروا خريطة أخرى في المنطقة بعد وقت ليس ببعيد، ولكن ليست تلك التي يأملها نتنياهو نفسه، ومعه واشنطن. سنشهد سقوط أنظمة عربية وصعود أخرى، لأن حالة الضعف والهوان التي أظهرتها معظم الدول العربية إزاء ما حدث في غزة، وما خلفته من قمع وإحباط على شعوبها، لا يمكن إلا أن تولد تغييرات عميقة لا يعرف مداها حاليا. وخاصة في الدول المحيطة بفلسطين.
ولن تعود المنطقة أبداً إلى هدوءها الطبيعي وكأن شيئاً لم يحدث. وكان الفيضان شديدا ومدمرا. ولنتذكر التحولات الكبرى التي حدثت في المنطقة بعد نكبة 1948. هذه المرة ستكون التحولات أعمق وأشد خطورة. عندها فقط سنعرف حقيقة من استهان بمن.
القدس العربية
Discussion about this post