لقد احتلت قضية العدوان الإسرائيلي على غزة وجرائم الإبادة الجماعية هناك مساحة من الجدل العقيم والمدروس بين الشماتة بالمقاومة الفلسطينية هناك والاستهزاء بها وبضحايا العدوان، وبين الاستخفاف بالرد الفلسطيني إلى درجة عدم جدوى وعبث أي عمل رداً على جرائم الاحتلال في كل فلسطين، واستمر هذا الجدل حتى بلغ ذروته في حادثة مجزرتي المواصلات والضاحية الجنوبية لبيروت، وربط ذلك باستعادة المواقف لشيطنة حركة حماس والمقاومة، ومواقف حزب الله من الثورة السورية وبقية الثورات العربية.
إن ذهاب جزء من هذه الحملة السجالية إلى خلط وتحريف بعض القضايا يشكل تحدياً أخلاقياً كبيراً للعديد من النخب، خاصة بعد أن اتضح أن حالة النشوة الإعلامية على تدمير الاحتلال لغزة ستؤدي إلى الخلاص الظاهري لـ”حماس” كما يتمناه كثيرون، وعلى رأسهم المؤسسة الصهيونية، وبجوهر الأمر الخلاص من المقاومة من خلال نزع كل مخلب من الشعب الفلسطيني، سواء في غزة أو في القدس أو جنين أو الخليل أو باقي أماكن صموده على أرضه.
على مدى الزمن، وفي كل المراحل التي مر بها المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني في فلسطين، اقترنت خطط مواجهة هذا المشروع بمجموعة من الأدبيات والمسلمات التي تشير إلى فعل التحرر الإنساني من الاستبداد والظلم والقهر، من أجل الوصول إلى الحرية المنشودة للأوطان والشعوب العربية، التي تسعى إلى المشاركة في صنع القرار والتاريخ. وعلى مدى الزمن اقترنت فلسطين وقضيتها كرمز للعدالة والحق بالأحلام الممكنة لرغبة عربية شعبية ورسمية في امتلاك دور ووظيفة تتعلق بمستقبلها، بحيث أصبحت قضية التحرر من الاستبداد العربي ثابتة من ثوابت تحقيق المشاركة العربية الفعلية في معركة دحر الاحتلال، وثابتة فكرية وثقافية وأخلاقية.
ولنتذكر في هذا الصدد، عشية العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، تصريح مناحيم بيغن الذي استشهد به المؤرخ فرانز شيدل في كتابه “الإرهاب اليهودي”: “أنتم الإسرائيليون لا ينبغي لكم أبداً أن تتراجعوا عندما تقتلون أعداءكم، ولا ينبغي لكم أن ترحموهم حتى ندمر ما يسمى بالثقافة العربية”.
إن زعزعة استقرار مكانة فلسطين ومقاومتها للاحتلال الاستعماري الاستيطاني بدأت منذ زمن بعيد بخطط ومشاريع مختلفة، من كامب ديفيد إلى أوسلو ووادي عربة، ولم تنته باتفاقات “إبراهيم”، مروراً بالمؤامرات ضد الثورات العربية التي تكرر فيها الهدف الجوهري المتمثل في حماية المحتل والطاغية، حتى أصبحت (الحماية) جزءاً لا يتجزأ من أيديولوجية صهيونية عربية تلجأ إلى نظرية الأمن ومكافحة الإرهاب لتعزيز المكانة الثنائية مع وجود احتلال مستقر وقوي من الناحية العسكرية والاقتصادية والسياسية، وقطب عربي جاهز ومستمر لضمان هذا الاستقرار بتوجيه أميركي وغربي. ولذلك فإن قرار الاحتلال الصهيوني الدخول في سلسلة واسعة من جرائم الحرب والإبادة الجماعية في غزة كان بمثابة المفتاح الذهبي للبوابة الصهيونية المفتوحة للجرأة على تكرارها في لبنان، في ظل الصمت الرسمي العربي والدولي المنافق في لجمها في غزة.
لقد كشفت المجزرة الصهيونية في غزة وأصداؤها في بيروت عن حزن متجدد على ضحايا المحتل الصهيوني والطاغوت العربي، وانتهاك دماء العرب وسفكها في فلسطين وتقطيع أوصالها واقتلاع زيتونها وتهويد أرضها ومقدساتها وتهجيرها… هل بسبب المقاومة الفلسطينية أم بسبب الطبيعة الفاشية للمؤسسة الصهيونية وسياساتها؟ أم بسبب برامجها الأيديولوجية التي تشكل عناصرها ميراثاً توراتياً تلموديا؟ وانتهاك الطغيان بقهر العربي وقهره وقتله وحرمانه من أبسط حقوقه في الكرامة والحقوق والمواطنة لا يلغي وصف الفعل الداعم بالإجرام، ولا يبطل قضيته ومعاناته الأخلاقية.
وهنا لابد من التفريق بين لغة المديح التي يوجهها بعض ضحايا الاستبداد العربي لمجازر المحتل الصهيوني وبين المديح الذي لا ينتهي الذي يوجهه لهم بعض من يشمتون بالضحايا والمقاومة. فالأمر لا يتعلق فقط بالشماتة بقتل المدنيين وضحايا الإرهاب الصهيوني المنظم، بل يتعلق أيضاً باللذة التي تكتسبها اللغة المستخدمة لتجميل فعل الجريمة بحجة الخلاص من انحطاط الظلم الشامل. وهذا التبرير قد يكون معقولاً لو لم تتخذ الفاشية شكل الشراكة بين الطاغية وأعوانه والمحتل وحلفائه.
وهنا لا بد من تسجيل بعض النقاط الخطيرة في ظل العدوان الإسرائيلي المتوسع على جبهتي غزة ولبنان، إن آخر ما يلجأ إليه بعض المتشامخين بالضحايا هو استخدام لغة التدليل على الفعل الإجرامي الصهيوني في هذا العالم العربي الذي يغرق في هزائمه أمام غطرسة الغطرسة الصهيونية، وينكسر وينهار في انقسامه بين جيش الطغيان وحراسه وجواسيسه، وبين الأنظمة الصهيونية ووسائل إعلامها التي تتشمت وتهين كل انتفاضة مرتبطة بالحرية والكرامة والمواطنة، إن هذا يعد تجاوزاً للعقل والضمير بشموله لكل شرور وفظائع الأنظمة الطاغوتية والمحتل، لأن الأمل الفلسطيني والعربي في الحصول على السند للتخلص من الطاغية ومواجهة جرائم العدوان والإبادة؛ من مواقف دولية تدعم حقوقهم في الشوارع والمحافل الدولية، رغم الحزن الأكيد على حالة الخيانة والشماتة والتهكم التي أصابت هذه الآمال في ثوراتها ومقاومتها، والتي تقود منطقياً لا محالة إلى ما يأمر العقل والمنطق والضمير بالوصول إليه، بعيداً عن الانفعالات الفردية والشماتة التي تفضح معاناتهم ومعاناة الآخرين.
وإلا فإن الحالة المرضية ستبقى قائمة عند من يسعى للتعافي من جريمة واحدة والتخلص من آثارها في وحدة الاحتلال والاستبداد، وهو شرط لمن يجيد قراءة سيرة جوهر المؤسسة الصهيونية، والولاء غير المشروط للحرية والكرامة والمواطنة بمعاييرها الوطنية والأخلاقية والمعرفية التي تمنع الشماتة بشعب يقاوم محتله الصهيوني، وآخر يصارع طاغيته العربي، وبدون ذلك لن ينجو أحد وهو يعتمد عن جهل وقصد على تدمير ثقافة عربية تقاوم المحتل والطاغية.